البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

المبحث الثاني الإنشاء

صفحة 107 - الجزء 1

  مبالغة في الذم، أو إظهار عاطفة جامحة. من ذلك مثلاً ذلك الأديب الذي ينادي أحبابه الذين سكنوا في البلد البعيد بأداة «الهمزة» التي هي للقريب، كأنه يتخيلهم قريبين منه، يسمعون نداءه، ويحسّون بنبضات قلبه. فيقول:

  أسكان نعمان الأراكِ تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سُكّانُ

  وقد ينادى القريب الداني، الذي يراه ويسمعه آناء الليل وأطراف النهار بأداة لا ينادى بها إلا البعيد مثل «يا». إشارةً إلى أن هذا الذي يناديه عالي المرتبة، عظيم الشأن، بينه وبين مناديه عوالم شاسعة، من المستحيل أن يقترب منها، أو يكون فيها، ولذلك فهو يخاطبه على هذه الصورة:

  يا مَنْ يُرجى للشدائد كلها ... يا مَنْ إليه المشتكى والمَفْزَع

  المرجى للشدائد، والذي إليه المشتكى والمفزع هو الله. وهو قريب، بل هو مع الإنسان أنى كان. ولكن أدب الخطاب دعا الشاعر أن يلتزم حدود الضراعة والأدب والخلق الرفيع، فناداه بتلك الأداة.

  ***

  وقد ينادى القريب بأداة البعيد احتقاراً وامتهاناً، أو لكونه شارداً كأنه رغم قربه الجغرافي بعيد عن القلب، والعين، فيقال له:

  أيا هذا أتطمع في المعالي ... وما يحظى بها إلا الرجال؟

  ويقال له إذا كان حاضر الذهن غائب العقل:

  أيا من عاش في الدنيا طويلاً ... وأفنى العمر في قيل وقالِ

  وأتعب نفسه فيما سيفني ... وجمع من حرام أو حلال

  هَبِ الدنيا تقاد إليك عفواً ... أليس مصير ذلك للزوال؟

  ***