المبالغة
المبالغة وقضية الصدق والكذب
  أما قضية الصدق والكذب وما ورد فيهما من تحليل أو تحريم فيرى فريق من العلماء أنهما غير واردين في هذا الباب، لأنَّ الشاعر حين يقول عن ممدوحه: أنت شمس، أو أنت بحر، أو ما أشبه ذلك فإنه لا يكذب أو يصدق، وإنَّما هو يتخيل، والخيال صفة أساسية في الشعر، يدخل في المديح كما يدخل في الهجاء، والرثاء، والغزل، وسواها من فنون القول. وحين يقول المحب لحبيبته متغزلاً بعينيها «عَيْنَاكِ أجمل ما في الوجود» فإنا لا نستطيع أن نقول له أنت صادق أو أنت كاذب، لأنه يتخيل أن عينيها بالنسبة إليه أجمل ما في الوجود، في حين أنا قد لا نراهما على هذه الصورة. وما قصة المجنون العامري وليلاه عنا ببعيدة، فلقد قيل له إنَّ ليلى التي جننت بها ليست على ما تقول جمالاً وفتنة، ولا تستحق هذه الأشعار، ولا هذا التشرد من أجلها، وأن سوادها، وخشونة ملمسها، وقبح منظرها كفيلة أن تردك إلى صوابك وتعيدك إلى رشدك. فقال لهم كلمته المشهورة. خذوا عيني وانظروا بهما إلى ليلى ولسوف تجدونها كما أقول عنها، وإنه يصدق على قول القائل: حسن في كل عين من تحب.
  إن الحب ليجعل العاشق يتخيل من يحب أجمل الناس وأعظمهم، وكذلك يفعل البغض، فالمُبْغِضُ يضع كل مذمَّة ونقيصة في عدوه وبغيضه، وكذلك يفعل المفتخر، أو المادح.
  نظر عمرو بن كلثوم التغلبي إلى قبيلته فوجدها أعز الناس، وأكثرهم عدداً، وأضاف خياله إلى ما رأى الشيء الكثير فقال مفتخراً:
  إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
  ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وماء البحر تملأه سفينا
  إنا لو وضعنا كلام ابن كلثوم في ميزان الصدق والحقيقة قلنا: إنه كاذب، ومُدَّع، ومغرور.
  لكنا لو درسنا قوله في ضوء الواقع الذي عاشه، ودرسنا شخصيته الخاصة، وتلمسنا ما كان يدور في قلبه وعقله، وما كان يحلم به ويتخيل،