فن التشبيه
  ومن بواعث ذلك: التفنن في أساليب التعبير، والنزوع إلى الابتكار والتجديد، وإقامة البرهان على الحكم المراد إسناده إلى المشبه، والرغبة في إخفاء معالم التشبيه، لأنه كلما خَفِي وَدَقَّ كان أبلغ في النفس.
  ولنضرب مثالاً على ذلك قول أبي فراس الحمداني(١) سَيَذْكُرُني قومي إذا جِدُّهُمْ ... وفي الليلة الظَّلماء يُفتقد البدر
  هذا البيت جزء من قصيدة طويلة، نظمها أبو فراس في بلاد الروم أيام أسره ومحنته، وقد استهلها بالغزل، ثم انتقل إلى وصف معاناته في سجنه، وتعطف سيف الدولة لفكاكه وافتدائه، وأنهاها بالفخر بنفسه وبيني قومه ...
  يريد أبو فراس أن يقول: إن قومه سيذكرونه حين تدلهمُّ الخُطوب، وتشتد الأزمات ... وسوف يفتحون عيونهم يفتشون عنه فلا يجدونه ... والدليل على صحة ما يقول: أن الناس يتطلعون إلى السماء، يفتشون عن البدر، ولا سيما في الليالي الحالكات ... يرجون منه النور ... ليبصروا به طريقهم، أو لينير لهم ظلمات حياتهم، وينقذهم مما يتخبطون فيه ...
  إن الشاعر لم يشبٌه حاجة قومه إليه أيام الأزمات كحاجة الناس إلى ضياء البدر في الليالي الحالكات ... ولكنه ألَمحَ إلى هذا المعنى إلماحاً، وضمّن بيته هذا التشبيه دون أن يصرح بمشبه ومشبه به ...
(١) من شعراء العصر العباسي، كان ابن عم سيف الدولة الحمداني، وعامله على منبج، وصفه صاحب يتيمة الدهر بفريد عصره في الأدب والكرم والشجاعة، وقال عنه الصاحب بن عبّاد: بُدِئ الشعر بمِلك وخُتم بملك، ويعني امرأ القيس وأبا فراس. وكانت له مع المتنبي خصومات ومواقف. مات قتيلاً سنة ٣٥٧ هـ / ٨٧٠ م.