بين الفصاحة والبلاغة
  قال الأصمعي(١): كنت أشهد أبا عمرو بن العلاء(٢) وخَلَفاً الأحمر(٣) يأتيان بشاراً، ويسلّمان عليه بغاية التعظيم، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت فيخبرهما، وينشدهما. ويسألانه، ويكتبان عنه، متواضعين له حتى يأتي الظهر، ثمّ ينصرفان عنه. فأتياه يوماً فقالا له: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ فقال: هي التي بلغتكما قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب فقال: نعم؛ بلغني أن سَلْماً(٤) يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه. قالا: فأنشدناها. فأنشدهما:
  بكرا صاحِبَي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير(٥)
  حتى فرغ منها. فقال له خَلفَ: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح في التبكير»: «بكرا فالنجاح في التبكير» كان أحسن. فقال بشار: بَنَيْتُها أعرابية وحشية، فقلت: «إن ذاك النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت بكرا فالنجاح لكان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة.
  ألا نرى أن بشاراً وهو الشاعر الأعجمي عرف من أسرار اللغة وفنون صوغها ما مكنه أن يلائم بين الغريب الذي أورده فيها وبين صوغ عبارات ذلك الغريب، وجعله يفضل عبارة على عبارة، لأنها أقرب إلى
(١) اسمه: عبد الملك بن قُرَيْب راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان. له مؤلفات كثيرة. ت ٢١٦ هـ / ٨٣١ م. الأعلام ٣٠٧/ ٤.
(٢) اسمه زبّان بن عمار من أئمة اللغة والأدب، وأحد القراء السبعة. توفي بالكوفة سنة ١٥٤ هـ / ٧٧١ م. الأعلام ٧٢/ ٣.
(٣) راوية وعالم بالأدب من مدرسة البصرة، كان يضع الشعر وينسبه إلى العرب. توفي سنة ١٨٠ هـ / ٧٩٧ م. الأعلام ٣٥٨/ ٢.
(٤) اسمه: سلم بن عمرو بن حماد. ولقبه: سَلْم الخاسر. شاعر عباسي خليع. ت ١٨٦ هـ / ٨٠٢ م. الأعلام ١٦٨/ ٣.
(٥) انظر: ديوان بشار ٣٠٢٣؛ ودلائل الإعجاز ص ١٧٨ و ٢٠٦.