الباب الثالث فن الكناية
  أو يحدوا أنفسهم بحدود، وظلوا منطلقين، وكانت تصدر عنهم بين الفينة والأخرى مبتدعات جديدة وطريفة، وفيها من الفن والذوق والشكل الجمالي ما يجعلها أرقى وأجمل وأحلى من كثير مما عند المصنفين والمؤلفين السابقين..
  هذه الألوان الجديدة التي ولد كثير منها في العصور المتأخرة، ولم يُدرجها مؤلفو البديع المعاصرون في كتبهم، إما لأنهم لم يطلعوا عليها، أو لأنهم حاروا في أمرها، أ أو لأنهم ا آثروا سلامة الرأس والأذن، وابتعدوا عن كل ما يقلق راحتهم، ويسلب من عيونهم رقادها، خشية نقد الناقدين، أو اعتراض المعترضين.
  ولقد جئت بمعظم هذه الألوان الجديدة، وأدرجتها مع مباحث البديع في هذا الكتاب، ورغبت أن ينظر فيها الناس، ويتحققوا من أن بعضها قد يشكل لوحة فنية جمالية، فيها من الإبداع والروعة ما تفتقده كثير من اللوحات الفنية المنثورة في المتاحف والقصور العالية؛ ومن حق أصحابها علينا أن نقدر عملهم وفنهم وإبداعهم كما قدر العلماء السابقون أعمال معاصريهم، ومن سلفوا، وأدرجوا إنتاجهم في كتبهم ومصنفاتهم.
  كذلك هناك نقطة أخرى أود الإشارة إليها في هذا الكتاب، وهي أن الفنون البديعية في كتب البلاغة محدودة المعنى والآفاق والصفات والتعريف. وخيل إلي أن ذلك بعض دوافع المتجافين والشانئين لهذا العلم؛ واستدراكاً لهذا التقصير حاولت، قدر الطاقة والجهد والسهر ونور العين، أن أتمدد في البحوث وأنطلق من أقوال المؤلفين السابقين إلى آفاق أخرى تخوض في النقد تارة، وفي علم النفس أخرى، وفي علم الجمال مرة، وفي علم الأسلوب مرة ثانية، وفي الشرح الأدبي مرات، وأربطها بعلوم الدين، أو بالتاريخ البشري، أو بتاريخ الحضارة، أو بفلسفة الأمم، أو بمنطق الشعوب، أو بغير ذلك مما يتطلب البحث ويتمدد فيه ويتناسب ويتفق.
  ولست أدري هل أخطأت هدفي أو أصبته، ونجحت فيما رميت إليه او أخفقت؟
  ويكفيني شرفاً أنّي خدمت هذا العلم بإخلاص وتواضع ومحبة. وأسأل الله، وحده، الأجر والقبول والرضى وأن يطرح فيه البركة، ويحتسبه في صحيفة أعمالي ووالدي، ويؤخره ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،