المبالغة
  هي النافذة لا مشيئة القضاء والقدر، والله في كتابه الكريم يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير: ٢٩] لكن ابن هانئ قال لممدوحه إن مشيئتك فوق مشيئة القدر، ثم زاد على ذلك بأن طالبه بالحكم، وكأنه يريده أن يحكم في مقادير الناس، فيرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، ويعز من يشاء، ويُذل من يشاء، ويُحيي مَن يَشَاء، ويُميت من يشاء ... لأنه الواحد الأحد، القهار المسيطر على مقاليد الوجود.
  أرأيت إلى هذا المأفون وما يقول، أرأيت كيف تخلى عن العقل، والدين، والعرف والعادة، والتفكير السليم، ولجأ إلى كلام هو إلى الهذيان أقرب؟
  وممدوحه، مهما علا قدره، وزادت قوته، واشتد بطشه، وامتد قهره، إنسان مخلوق، تؤذيه بعوضة، وتزعجه ذبابة، وتعضه نملة، وتقتله جرثومة، وسوف يموت، ويُدفن تحت التراب، وتأكله الديدان، ويصبح رفاتاً تذروه الرياح..
  ممدوحه هذا عبد من عباد الله، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة، ولا صحة ولا مرضاً، ولو أراد مَدَّ أَجَلِهِ لحظة واحدة ما كان ذلك له، ولو اجتمعت من اجله أطباء الدنيا، وقدمت إليه كل أدوية الحياة. وإذا حان اجله لم يستأخر ساعة ولم يستقدم ساعة. ولا يستطيع الهرب من الموت، والاختفاء من اجله مهما كان ماله، ورجاله وقصوره، واعوانه، ومهما مدحه المادحون، وأشاد به المشيدون، وطبل له المطبلون، وزمر المزمرون. لسوف يهال عليه التراب. ولو وقف ألف شاعر كابن هانئ يقولون فيه مثل ما قال، ويصفونه بمثل ما وصف، ويبالغون بمثل ما بالغ.
  إنا نقبل من الشاعر أن يشبه ممدوحه بالبدر، أو بالبحر، أو بالشمس، أو بالكوكب الدري. ويقول عن كرمه أو شجاعته ما يقربه من السباع والأسود وكل وحوش الغابة ولا نعترض عليه في ذلك.
  أما أن يصفه الشاعر بأن مشيئته فوق مشيئة القدر، والقدر هو قضاء الله