البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

الطباق والمقابلة

صفحة 47 - الجزء 3

  ولكن الحقيقة غير ذلك، فليس بين اللفظين تضاد، لأن «ضحك المشيب» يعني اشتعال الرأس بالشيب، و «بكى» من البكاء الحقيقي بالدمع. فأي تضاد بين ظهور الشيب وبكاء العين؟ ولهذا فقد دعا البلاغيون هذا اللون بالوهمي. ومثل ذلك قول أبي تمام⁣(⁣١):

  ما إن ترى الأحساب بيضا وضحاً ... إلا بحيث ترى المنايا سودا

  فالأحساب «البيض» هي أحساب كريمة، والمنايا «السود» هي المفزعة المجزعة. ولا تنافي بين الأحساب البيض والمنايا السود، ولكن الذي أوهم بالطباق وجود لفظي «البيض والسود». ومثله قوله في وصف الشيب⁣(⁣٢):

  له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود اسفع

  فلا تضاد بين اللون الأبيض الناصع الذي تراه العين على الرأس وبين الحزن الأسود المجازي المقيم في القلب من شدة الحزن والهم الناجمين عن انتشار الشيب في الرأس والإشعار بدنو النهاية المحتمة. ولكن الذي أوهم بوجود تضاد هو ذكر كلمتي «أبيض وأسود» وهذا ما دعاه البلاغيون بالطباق الوهمي. والشيء نفسه نقول عن بيت الشاعر ذاته⁣(⁣٣):

  وتنظري خبب الركاب ينصها ... مُحبي القريض إلى مبيت المال

  فلقد يتوهم المرء أن بين «محيي القريض ومميت المال» طباقاً، وليس الأمر كذلك، فمحيي القريض هو ناشيره و باعث نهضته، وكان الشاعر يعني نفسه أما مميت المال فيعني باذله ومضيعه، وأبو تمام يقصد به ممدوحه الحسن بن رجاء. لكن وجود لفظي (محبي ومميت هو الذي دعا إلى توهم وجود طباق.

الطباق الفاسد

  الأصل في الطباق هو الجمع بين الشيء وضده. فإذا لم يجتمع ضدان


(١) من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني، مطلعها (طلل الجميع لقد عفوت حميدا ...).

(٢) من قصيدة يمدح بها أبا سعيد التغري، ومطلعها: «أما إنه لولا الخليط المودع».

(٣) من قصيدة يمدح بها الحسن بن رجاء وتنظري بمعنى: انتظري. وخبب الركاب سرعة العدو للإبل، ينصها: يسرع بها.