القسم الأول جماليات في النظم والمعنى
  يصنع من هذا كله شيئاً، ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير.
  حركة في كيان الكون كله، وفي كيان كل حي كذلك، حركة خفية عميقة لطيفة هائلة، تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري، وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.
  {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٢٧}[آل عمران]. إنّها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى، حقيقة الألوهية الواحدة، حقيقة القيام الواحد، وحقيقة الفاعلية الواحدة، وحقيقة التدبير الواحد، وحقيقة المالكية الواحدة، وحقيقة العطاء الواحد، ثم حقيقة أن الدينوية لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل المحيي المميت، المانح المانع المدبر لأمر الناس والكون بالقسط والخير على كل حال(١).
  أفنستطيع بعد هذا العرض أن نبقى على رأي من قال: إن في عرض هذه المتقابلات زينة بديعية، وتحسينا للمعنى ليس أكثر؟
  نؤكد أن الطباق والمقابلة وما يتفرع عنهما ليس أمراً نافلاً، وليس زينة بديعية، يلهو بها الأديب، فيورد الكلمة وضدها، والعبارة وأختها أو نقيضها ليجعل كلامه براقاً خلاباً بديعياً.
  إنما الطباق أساس من عمارة هذا الكون في ظاهره وباطنه، وهو أكبر مما وصفه المؤلفون. لأن الحياة بكل عناصرها هي جزء من هذا اللون، أو هذا اللون جزء من الحياة ذاتها. وهل نستطيع أن نفهم الوجود بكل ما فيه لولا هذه المتقابلات؟ الغنى والفقر الحياة والموت الدنيا والآخرة الثواب والعقاب الخير والشر، الجنة والنار السماء والأرض، الإنس والجن، الذكر والأنثى الصحة والمرض العلم والجهل، الشرق والغرب، الأم والأب الأخ والأخت الصديق والعدو، الحاكم والمحكوم، الجمال والقبح، الوجود والعدم، الخالق والمخلوق، السيد والمسود الإيمان والكفر الأنا والأنت الحاضر والغائب، الأعمى
(١) في ظلال القرآن ٣٨٢/ ١.