البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

القسم الأول جماليات في النظم والمعنى

صفحة 62 - الجزء 3

  هذا الخير في كل حال. بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير.

  {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٢٧}⁣[آل عمران].

  التعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس. هذه الانسيابية الخفية المتداخلة، إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي. والتي تدل على عظمة الله بلا شبهة ولا جدال متى ألقى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق.

  وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل هو أخذ من هذا، وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول. أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الإمساء والإصباح. سواء كان هذا أو ذاك فإنَّ القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرّك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء. شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار، وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام. شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء، وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف. وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة، ولا يدعي عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير.

  كذلك الحياة والموت، يدب أحدهما في الآخر، في بطء وتدرج، كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة، ويأكل منه الموت، وتبنى فيه الحياة خلايا حية منه تموت وتذهب، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل، وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة، وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت. هذا في كيان الحي الواحد. ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر، ثم تدخل في جسم حي، فتدب فيه الحياة وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي