البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

الإرصاد

صفحة 84 - الجزء 3

  وتروي الأخبار - كذلك - أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٠٩}⁣[البقرة]. وكان الأعرابي جاهلاً، لا يعرف القرآن، ولكنّه عربيّ أصيل، يُدرك اللغة، وما يجب أن تكون عليه أساليبها، كما يدرك ما ينبغي أن تكون عليه نهاية الكلام، إذا سمع بدايته، فقال: (إن كان هذا كلام الله فلا، إنَّ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه). وعاد القارئ إلى القرآن لينظر أكان مصيباً أم مخطئاً، فوجد نفسه على خطأ، فالآية انتهت بقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٠٩}.

  إنَّ الشواهد من الكتاب الكريم كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٩}⁣[يونس]. فإذا قرع سمع السَّامع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}⁣[يونس: ١٩] ثم وقف على قوله {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}⁣[يونس: ١٩] فإنَّه يعرف لا محالة لما سبق من تصدير الآية أن تمتها وتكملتها {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٩}⁣[يونس] لِمَا تَقدّم ما يشعر بذلك ويدل عليه.

  ومن ذلك قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}⁣[العنكبوت: ٤٠] فإذا وقف السامع على قوله {وَلَكِنْ كَانُوا}⁣[البقرة: ٥٧] عرف لا محالة أن بعده ذكر ظلم النفوس، لما كان في الكلام الأول ما يدل عليه دلالة ظاهرة، وأمارة قوية، والآية الكريمة تنتهي بقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٥٧}⁣[البقرة].

  ومثله قوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ٦٠}⁣[الرحمن] فإذا وقف السامع على قوله {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ}⁣[الرحمن: ٦٠] تحقق لا محالة أن ما بعده: قوله {إِلَّا الْإِحْسَانُ ٦٠}⁣[الرحمن] لما في ذلك من الملاءمة وشدَّة التناسب.