البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

المشكلة

صفحة 194 - الجزء 3

  فقد روى الشيخان عن أنس بن مالك ¥، ان يهودياً قتل جارية على أوضاح⁣(⁣١) لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك، فقتله رسول الله بين حجرين، رض رأسه بهما⁣(⁣٢) وقد أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة اسم «العقوبة» على الجناية الأولى في قوله {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}⁣[النحل: ١٢٦] والجناية الأولى ليست عقوبة، لأن القرآن بلسان عربي مبين، وما هذه الكلمة إلا اسلوب من أساليب العربية، وهي «المشاكلة» بين الألفاظ، فيذكر لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به الكلام، كقول الشاعر أبي الرقعمق:

  قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي حبة وقميصا أي خيطوا لي. وقال بعض العلماء: ومنه قول جرير: هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن الحاجة هذا الأرمل الذكر.

  بناء على القول: إنَّ «الأرامل» لا تُطلق في اللغة إلا على الإناث.

  وهذه الآية الكريمة فيها مشاكلة لفظية، حيث أطلق لفظ «فاعتدوا» مشاكلة للفظ «اعتدى» «الأول».

  وعلى هذا الأساس يمكن تفسير قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}⁣[الشورى: ٤٠] مع أن القصاص ليس بسيئة، فالحكم الذي يحكم به الحاكم على قاتل، أو مجرم، أو سارق، أو قاطع طريق، أو مفسد في الأرض، او معتد على أموال الناس أو أعراضهم. كالقتل، أو السجن، أو القطع، أو سواها من العقوبات ليس عملاً سيئاً، وإنما هو تطبيق وتنفيذ لشرع الله، وترسيخ للأمن والأمان للناس، وبث الطمأنينة في حياة الناس وقد قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}⁣[البقرة: ١٧٩] وما كلمة «سيئة» الثانية إلا مشاكلة للكلمة الأولى. وأسلوب من اساليب البيان العربي.

  وبمثل هذا الأسلوب نفسر قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ


(١) الأوضاح جمع وضح وهي الحلي من الدراهم الصحاح.

(٢) اضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي ٤٥٩/ ٣.