البلاغة علم وذوق
  وكيف نقول عن ميولنا التي اختلفت بين صبانا وشبابنا؟ وماذا نحكم على آرائنا التي تبدلت من زمن إلى زمن؟ وبم نحتج على أذواقنا التي تباينت من سنّ إلى سن؟ ثم ألا يمكن الآخرين أن يحكموا لأنفسهم بمثل ما حكمنا لأنفسنا، وأن يدعوا أن حكمهم هو الأقوم والأرجح والأصوب؟
  إذن! ما السبيل إلى تبين الحق، وتمييز الرشاد، والحكم بالعدل والقسطاس المستقيم؟
  يقول بعض العلماء: إنّا في مثل هذه الأحوال نحتكم إلى الذوق، وبه نهتدي إلى سواء السبيل؛ وبالذوق نتمكن من تمييز الحق وغير الحق، والصواب وغير الصواب والملائم وغير الملائم، على أن يكون هذا الذوق المرجّح سليماً.
  نحن مع هذا الشرط، ونؤمن أن الذوق السليم هو الحكم الفصل بين المتناقضات واختلاف الأهواء والآراء. ولكن كيف نتعرف الذوق السليم، ونميزه عن الذوق غير السليم؟ بل متى نقول: هذا ذوق صحيح سليم، وذاك ذوق غير سليم؟ أنقول ذلك اعتماداً على ذوقنا أم على ذوق غيرنا؟ ومن الذي يحكم أنّ ذوقنا أو ذوق غيرنا هو السليم؟ قد يقال: يحكم به صاحب الذوق ويميزه. وحينئذ نعود إلى السؤال من جديد من أين لنا أن نعرف صاحب الذوق؟ أنعرفه بذوقنا أم بذوق سوانا؟ وهكذا ندور في الحلقة المفرغة.
  وبعد، فإنا مقدمون على دراسة علم فيه للذوق أثر كبير، ولكن فيه للعلم والمعرفة والمقاييس الموضوعية الأثر الأكبر، وبدون هذه المقومات العلمية والموضوعية لا نستطيع الوصول إلى حكم عادل يرضينا ويرضي غيرنا من العالمين.
  هذا العلم الذي نسعى إلى تعرفه هو «البلاغة» أو فن القول البديع.