البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

مدرسة النظم

صفحة 21 - الجزء 1

  جسداً وروحاً متكاملين، إذا أصاب الحَيْفُ أحدهما اشتكى له الثاني وتداعى.

  وكان من زعماء هذا الفريق أكبر رجل عرفته البلاغة العربية على مدى تاريخها الطويل، ذوّاقة للنصوص، وعقليّةً راجحة، ومنصفاً كبيراً، هو الشيخ عبد القاهر الجرجاني⁣(⁣١)، ولاسيما في كتابه «دلائل الإعجاز».

  لقد أزعج الجرجاني ذلك التقدير للألفاظ وتقديمها على المعاني عند من سبقه من النقاد، حتى إنهم جعلوا للفظة المفردة مميزات وصفات لم يستطع أن يتقبلها ذهنه المتمرّس بتفاوت الدّلالات، وقيمة التعبير عن ذلك التفاوت، وكان يحس بوعي نقدي فذ أن ثنائية اللفظ والمعنى التي تبلورت عند ابن قتيبة قد أصبحت خطراً على النقد والبلاغة معاً. أما على المستوى النقدي فإن الانحياز إلى اللفظ قتل الفكر الذي يعتقد الجرجاني أنه وراء عملية أدق من الوقوف عند ميزة لفظة دون أخرى، وأما على المستوى البلاغي فإن الجرجاني لم يستطع أن يتصور الفصاحة في اللفظة، وإنما هي في تلك العملية الفكرية التي تصنع تركيباً من عدة ألفاظ⁣(⁣٢)؛ وقد يجد الجرجاني عذراً للقدماء الذين أقاموا تلك الثنائية، ففخموا شأن اللفظ وعظموه، وتبعهم في ذلك مَنْ بعدهم حتى قالوا: المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ وعذرهم في ذلك أن المعاني تتبيَّنُ بالألفاظ، ولا سبيل لمن يرتبها إلى أن يدلّنا على ما صنع في ترتيبها إلا بترتيب الألفاظ، لهذا تجوّز القدماء فكنّوا عن ترتيب المعاني بترتيب


(١) واضع أصول البلاغة، ومؤلف «دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة» وكتب أخرى. ت ٤٧١ هـ/ ١٠٧٨ م. وانظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي ٢٤٢/ ٣؛ وشذرات الذهب لابن العماد ٣/ ٤٠٣؛ والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ١٠٨/ ٥؛ ودمية القصر للباخرزي ١٠٨؛ وفوات الوفيات (طبعة ١٢٩٩) ٢٩٧/ ١؛ وروضات الجنات للخوانساري ص ١٤٣؛ وإنباه الرواة للقفطي ١٨٨/ ٢؛ والبلاغة تاريخ وتطور لشوقي ضيف ص ١٦٠؛ والأعلام ١٧٤/ ٤.

(٢) تاريخ النقد الأدبي عند العرب للدكتور إحسان عباس ص ٤٢٢.