الباب الأول فن التشبيه
  ويُرجع عبدُ القاهر تأثير التشبيه في النفس إلى عِللٍ وأسباب. وأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوفٌ على أن تخرجها من خفيَّ إلى جليَّ، وتأتيها بصريح بعد مكنيّ، وأن تَرُدَّها في الشيء وتعلَّمها إياه إلى شيءٍ آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، عما يُعلم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطّبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواسّ .... يفضُل المستفاد من جهة النظر والفكر .... ، كما قالوا: ليس الخَبَر كالمعايَنَة، ولا الظنّ كاليقين ... فالانتقال في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له سببٌ سوى زوال الشكّ والَّرَّيب.
  فالمشاهدة لها أثرها في تحريك النفس وتمكين المعنى من القلب، ولولا أنّ الأمر كذلك لما كان هناك معنى لنحو قول أبي تمام:
  وطولُ مُقام المرء في الحيَّ مُخْلِقٌ ... لديباجتَيْهِ، فَاعْتَرِبْ تَتَجَدَّدِ
  فإني رأيتُ الشمس زيدت محبَّة ... إلى الناس أن ليست عليهم بِسَرْمَد
  وذلك أن هذا التجدد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أُنْساً من حيث هي رؤية، وكان الأُنس لنفيها الشك والرَّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يُعلم من قبل.
  ولو أن رجلاً أراد أن يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هل يجتمعان؟ وأشار إلى ماءٍ ونارٍ حاضرين، وجدْت لتمثيله من التأثير ما لا تجدُه إذا أخبرك بالقول فقال: هل يجتمعُ الماءُ والنار؟ وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدَّ كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب؛ وكان مكانُها إلى أن تُحدث الأريحية أقرب.