البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

بين الفصاحة والبلاغة

صفحة 35 - الجزء 1

  ولقد ضرب القدماء لنا مثالاً على هذه المتاهة بقول العجاج⁣(⁣١):

  أيام أبدت واضحاً مفلجاً ... أغر براقاً، وَطَرْفاً أَبْلَجا

  ومُقلَةٌ، وحاجِباً مُزَجَّاً ... وفاحِماً، ومَرْسِناً مُسَرجا⁣(⁣٢)

  واحتاروا فيم يفسرون «ومَرْسِناً مُسَرَّجاً» فالمَرْسَن هو الأنف.

  والمُسَرَّج: قد يكون من السراج، وقد يكون منسوباً إلى رجل يدعى سريج كان يصنع سيوفاً دقيقة شديدة الاستواء. أيقصد الشاعر أنفاً مضيئاً كالسراج، أم أنفاً دقيقاً كالسيوف السريجية؟

  هذه الحيرة في معرفة المعنى المراد هي موطن الشاهد، وهي التي أبعدت الصورة من إطار البلاغة المنشودة.

  ومن الغلظة وقوع المعاطلة في الكلام، فليس يدري القارئ مراد المتكلم، لتقديمه ما حقه التأخير، أو تأخيره ما حقه التقديم.

  فقول الشاعر المادح:

  ولو أن مجداً أخلد الدهر واحداً ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعم⁣(⁣٣)

  بعيد عن البلاغة، لأن الضمير في مجده عائد على الاسم المتأخر «مطعماً». والعربية تفرض التقدم لمن حقه التقدم والتأخر لمن حقه التأخر، وتطلب استواء التعبير والتفسير، ووضع كل شيء في مكانه.

  يريد الشاعر أن يقول: لو كان مجد الإنسان سبباً لخلوده في هذه الدنيا لكان «مطعم بن عَدِيّ وهو الممدوح» أولى الناس بالخلود، لأنه حاز من المجد ما لم يَحُزه غيره.


(١) العجاج: عبد الله بن رؤبة، راجز أموي ت ٩٠ هـ / ٧٠٨ م. الأعلام ٢١٧/ ٤.

(٢) الواضح النقي. المفلج: المفترق أبلج: واضح. مزجج: مرقق. فاحم: أسود. مرسن: أنف. والأبيات في: ديوانه ص ٨؛ ومعاهد التنصيص للعباسي ٦/ ١؛ والمخصص لابن سيده ٢/ ١٥٥.

(٣) البيت لحسّان بن ثابت ديوانه ص ١٢٩.