البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

فن الكناية

صفحة 184 - الجزء 2

  بها، ولا أن تذكرها باسمها الأصيل وليس إلا الكناية من يقوم بهذا العبَّ، ويحقق لك ما تريد.

  فلو قرأت قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ٢٩}⁣[الإسراء]

  ألا ترى أن التعبير عن البخل باليد المغلولة إلى العنق، فيه تصوير لهذه الخلة المذمومة في صورة بغيضة منفرة؟ فهذه اليد التي علت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد، وهذا التعبير التصويري مثل لك صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد بإنفاق ولا عطية مجسمة، مُحبَّة، كأنك تراها وتلمسها وكانت الكناية وسيلة إلى هذا الهدف المنشود

  ولو قرأنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}⁣[الحجرات: ١٢] لوجدنا كيف مثلت الآية المغيبة بأكل لحم الإنسان ... ولكن أي إنسان هذا؟ إنه أخ وإن المغتاب يأكل لحم أخيه، وأي أخ هذا؟ إنه الأخ الميت الذي تفسح لحمه، وأنتن، وكان للدود فيه حظ ونصيب ... ومن يستطيع أن يقبل على أكل لحم إنسان، أخٍ، ميتٍ، متفسخ؟

  هذا الاغتياب ذكر المساوئ الناس، وتمزيق لأعراضهم، ونهش لسمعتهم، وغض لفضائلهم، لا في وجوههم، ولا بين أيديهم، وإنما من وراء ظهورهم؛ وإنه لَفِعْلُ الجبناء، الضعفاء، الذين لا يظهرون قوتهم إلا في