البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

الباب الثالث فن الكناية

صفحة 185 - الجزء 2

  الخلاء، وعند فراغ الساحة من الرجال .... وهؤلاء الذين يغتابون الناس مثلهم كمثل التافهين والحشرات، والهوام، الذين ينتظرون موت الإنسان، ليكون بلا عقل، ولا حس، ولا شعور لينهشوا لحمه، وإن كان نتناً، وذلك لأنهم لم يعتادوا الأطايب في الحياة، وإنما استساغوا الأقذار والأنتان.

  ألا تحس بروعة هذه الكناية وجمال تصويرها وحسن أدائها؟

  اقرأ الآن قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}⁣[المائدة: ٧٥]

  تجد الكناية في قوله {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}⁣[المائدة: ٧٥] وتستطيع أن تجد لها معنيين، معنى قريباً هو الذي يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى، لكنه معنى غير مراد، إنما المقصود به ما وراء أكل الطعام، وما يشير إليه ذلك الأكل .... وتلك هي الكناية ...

  الروعة في هذا التعبير أنه تعالى أراد أن يصف السيد المسيح # بالصفات البشرية، فعبر عن ذلك بأكل الطعام، وفي هذا التعبير أدب عظيم، وذوق رفيع، ورقة ما بعدها من مزيد. إن أكل الطعام يتبعه هضم، والمهضوم يسري في الجسد منه شيء ويزيد منه شيء آخر وهذا المتبقي يخرج من سبيله المعلوم ...

  أرأيت إلى الكناية، وروعة استعمالها، وكيف حادت عن التصريح إلى التلميح ... ؟.

  وانظر في قول الرسول الحادى الإبل، أنجشة. الذي كان يحدو، فتطير الإبل سرعة ... (رفقاً بالقوارير).