البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

المبالغة

صفحة 28 - الجزء 3

  ويرد الفريق الأول على الثاني فيقول: المبالغة من محاسن أنواع البديع، ولولا سمو رتبتها ما وردت في القرآن العظيم والسنة النبوية، ولو سلمنا إلى من يهضم جانبها ولم يعدها من حسنات الكلام بطلت بلاغة الاستعارة، وانحطت رتبة التشبيه⁣(⁣١) ويضيف إلى ذلك قوله إنها ضرب من المحاسن إذا بعدت عن الإغراق والغلو، وإن كانا من المحاسن والأنواع البديعية. هذان اللونان مرفوضان على صورة الإطلاق والتعميم، ومقبولان محمودان على صورة التقييد والتخصيص.

  ويذهب ابن حجة الحموي - وهو من أنصار المبالغة - إلى القول: يعجبني قول القائل:

  أضاءت لهم أحسابهم ووُجُوهُهُم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه⁣(⁣٢)

  فيقول: المعنى ثمَّ للناظم في بيته إلى قوله: دجى الليل. ولكن زاد بما هو أبلغ وأبدع وأغرب في قوله «حتى نظم الجزع ثاقيه». ومثله قول أبي الطيب في جواد:

  (⁣٣) واصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين اركب

  ومن معجز المبالغة في القرآن العظيم قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ١٠}⁣[الرعد]. فجعل كل واحد منهم أشد مبالغة في معناه، وأتم صفة.

  وجاء من المبالغة في السنة النبوية قوله مخبراً به عن ربه «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به»، وقوله في بقية هذا الحديث. «والذي نفس محمد بيدِهِ لَخُلُوفُ فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك»⁣(⁣٤).


(١) خزانة الأدب لابن حجة ص ٢٢٥.

(٢) المعنى: ان وجوههم وأنسابهم شريفة - وضيئة مشرقة، حتى ليضيء الليل من نورها، وحتى أن الإنسان ليقدر على سلك الخرز في سلك مستضيئاً بنور وجوههم.

(٣) ديوانه ص ٤٦٧.

(٤) صحيح البخاري. الباب الثاني والتاسع من كتاب الصوم.