القسم الأول جماليات في النظم والمعنى
  والآن. عد إلى الآية الكريمة السابقة، وأعد تلاوتها من جديد.
  وانظر كمية المدود، والنونات، والكسرات، والشدات. ولسوف تجدها طاغية. ألا تشعرك هذه الكسرات بانكسار عين المفجوع، وانكسار قلبه، وانكسار خاطره؟ ألا توحي إليك هذه النونات بالأنين؟ ألا تصور لك هذه المدات تلك الآهات؟ ثم ألا ترى أن الآية الكريمة بجملتها صورة وصوت لهذا الموقف الحزين؟
  أليس هذا موافقة الكلام لمقتضى الحال؟ بل أليس هذا مناسبة القول للوضع الراهن؟ ثم أليس هذا ما سعى إليه العلماء حين رسموا في خاطرهم المثل الأعلى لمراعاة النظير؟ هذه المراعاة التي تجاوزت المظاهر والكلمات وامتدت إلى عالم الروح والنفس والجوانح والخلجات، لتصنع كلاً متوافقاً متفقاً. الظاهر مع الباطن، والدمعة مع الأهة، والأنين مع الرنين.
  أما ائتلاف اللفظ واللفظ فهو أن تريد معنى من المعاني تصح تأديته بألفاظ كثيرة، ولكنك تختار واحداً منها لما يحصل فيه من مناسبة ما بعده وملاءمته، ومثاله قول البحتري في وصف الإبل بالهُزال:
  كالقسي المُعطفات بل الأسـ ... ـهم مبرية، بل الاوتار
  فإنه إنما اختار وصفها بالقسي مع أنَّ هذا المعنى يحصل بتشبيهها بالعراجين والأخلة والأطناب والأعواد وغير ذلك، لكنه اختار القسي لما أراد ذكر الأسهم والأوتار، فيحصل بذكر القسي ملاءمة لا تحصل بذكر غيره، فلهذا آثره، ولقد أحسن فيه لما اشتمل عليه من حسن التأليف، وجودة النظم، ومراعاة المناسبة فيما ذكره.
  وكذلك قول ابن رشيق:
  أصح وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
  أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الامير تميم
  فلاءم بين الصحة والقوة، وبين الرواية والخبر، لانها كلها متقاربة في الفاظها، ثم قوله «احادث» تقارب «الاخبار» ثم اردفها بقوله السيول، ثم