البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

القسم الأول جماليات في النظم والمعنى

صفحة 79 - الجزء 3

  مناسبة القصيدة تتلخص في أنَّ الشاعر كان يصطاف مع أسرته في أحد المصايف اللبنانية «قُرنايل» ولمَّا اقترب موعد افتتاح المدارس تركت الأسرة المصيف وعادت إلى حلب، وبقي الشاعر بعدها أياماً وحده، ينظر إلى آثارهم، وتأبى عليه نفسه أن يمسحها أو يزيلها من مكانها، بل على العكس، إنه راح يتقراها بيديه، ويمسح عليها بعينيه، ويضعها على قلبه، ويمزجها بدموعه الفيَّاضة، ولقد أوحى إليه ذلك كله بهذه الرائعة الخالدة:

  أين الضجيج العذب والشعب ... أين التدارس شابه اللعب

  أين الطفولة في توقدها ... أين الدمى في الأرض والكتب

  أين التشاكس دونما غرض ... أين التشاكي ماله سبب

  أين التباكي والتضاحك في ... وقت معا، والحزن والطرب

  أين التسابق في مجاورتي ... شغفاً، إذا أكلوا، وإن شربوا

  يتزاحمون على مجالستي ... والقرب مني حيثما انقلبوا

  يتوجهون بسوق فطرتهم ... نحوي، إذا رغبوا وإن رهبوا

  فنشيدهم «بابا» إذا فرحوا ... ووعيدهم «بابا» إذا غضبوا

  وهتافهم «بابا» إذا ابتعدوا ... ونجيهم «بابا» إذا اقتربوا

  ***

  بالأمس كانوا ملء منزلنا ... واليوم، ويح اليوم، قد ذهبوا

  وكأنما الصَّمت الذي هبطت ... أثقاله في الدار إذ غربوا

  إغفاءة المحموم، هدأتها ... فيها يشيع الهم والتعب

  ذهبوا، اجل ذهبوا ومسكنهم ... في القلب، ما شطُّوا وما قربوا

  إني أراهم أينما التفتت ... نفسي، وقد سكنوا، وقد وثبوا

  واحس في خلدي تلاعبهم ... في الدار، ليس ينالهم نصب

  وبريق أعينهم إذا ظفروا ... ودموع حرقتهم إذا غلبوا

  في كل ركن منهم أثر ... وبكل زاوية لهم صحب

  في النافذات، زجاجها حطموا ... في الحائط المدهون قد ثقبوا

  في الباب، قد كسروا مزالجه ... وعليه قد رسموا، وقد كتبوا

  في الصحن، فيه بعض ما أكلوا ... في علبة الحلوى التي نهبوا

  في الشطر من تفاحة قضموا ... في فضلة الماء التي سكبوا

  إني اراهم حيثما اتجهت ... عيني كأسراب القطا، سربوا