تأكيد المدح بما يشبه الذم وتأكيد الذم بما يشبه المدح
  الاستثناء، وتتحرَّك أخيلتهم بشتَّى الأخيلة، وقد يتصوَّرون للمدوح ألواناً من العيوب، وقد يدور في خيال كلَّ منهم أمور وأمور لا يحبُّها من الممدوح، ويتوقع من الشَّاعر أن يأتي عليها، أو يذكرها ويصرَّح بها بعد هذا الاستثناء الذي خبطهُ بعنف في أسماعهم وفي وجوههم، ويستعجلون المستثنى، وذكر العيب الذي أوحى به، بل تنشد عيونهم وآذانهم وقلوبهم وجميع حواسَّهم إلى ما سوف يقول.
  وعند هذه المرحلة يخبط الشَّاعر خبطته العظمى، فيورد عليهم ما لم يكن في حسبان أحدٍ منهم، ولا خطر على قلب بشر فيهم. إنَّه يضيف صفة مدح جديدة بعد ذلك الاستثناء، وهذه الصَّفة غالباً ما يختارها من الأمور التي لا يأتيها الشكُّ من بين يديها ولا من خلفها.
  وعند هذه المفاجأة تنقلب التوقُّعات رأساً على عقب، وتملأ الفرحة وجه الممدوح أولاً، كما تملأ وجوه السَّامعين جميعاً. وتبتهج القلوب بالنَّعمة الجديدة غير المتوقعة، ويُطري الحاضرون الشَّاعر على أسلوبه المظفر، الذي بلغ به الدرجات العُلى.
  أرأيت إلى الفرق بين الأسلوب المباشر وغير المباشر؟ إنَّ الشَّيء الذي يأتي على غير انتظار يكون أكثر إفراحاً وإبهاجاً من الأمر المنتظر والمتوقع، والشيء نفسه يقال عن الصد، في وضع الهجاء أو في المصائب. كفانا الله شرها.
  وتحقيقاً لما ذكرنا نورد بيت ابن الرومي:
  ليس بهِ عيب سوي أنه ... لا تقعُ العينُ على شبهه
  إنَّ في قول الشاعر «ليس به عيب» نفياً لكل ما يمكن أن يخطر في بال إنسان من أنواع العيوب، فالممدوح مصفَّى من العيوب، مُنقى من كل ما يشين، كاملٌ مكمَّل. بدليل قوله «ليس به عيب».
  لكنَّه حين أورد كلمة «سِوى» أوقف استرسالَ النَّفس والخيال بكمال الممدوح ونقائه وبهائه، وتركنا نفخر أفواهنا من هذه الصَّدمة فلقد قرع لنا