القسم الأول جماليات في النظم والمعنى
  جرسا، واراد أن ينبَّهنا إلى أمر ذي بال لم يدر في خلدنا أو أنه سوف يستدرك على ما قال، وسوف يستثني بعض العيوب والهنات. وطبيعيٌّ من الشَّاعر هذا الاستثناء والاستدراك، فالإنسان مهما علا شأنه، وسما مكانه، وعظُم قدره، وكثُر مالُه، فإنّه يبقى في حدود البشرية التي تخطئ وتصيب، وتقوم وتقعد، وتفعل ما يفعله الإنسان غير المعصوم.
  لقد هيا الشاعر بكلمة «سِوى» النُّفوس لتقبُّل صفة، مستثناة من قوله السَّابق، ويدور في الخاطر أنَّ هذا الاستثناء سيكون ذكر عيبٍ من العيوب، ولو كان عيباً صغيراً. فإنّه - على كل حال - عيب.
  هنا، في هذه اللحظة، تكون العيون والآذان والقلوب والجوارح جميعاً مشدودة إلى معرفة هذا المستثنى. أتراه عيباً خَلقيا ام تراه عيبا خلقياً؟ أتراه يتَّصل بالطبائع أم بالسلوك؟ أله علاقة بالآخرين من العالمين أم أنه عيب ذاتيٌّ قاصرٌ على ذلك الإنسان وحده، لا يتجاوزه إلى سواه ... ؟ أسئلة كثيرة تتوارد على الخواطر، ومع هذه الأسئلة ترقب فيه لهفة وشوقٌ إلى معرفة هذا الذي قرع الشاعر جرسه بكلمة «سِوى».
  وحين يصل الشَّاعر إلى هذه الدرجة الحادة يضرب ضربته الناجحة، ويفتح فمه، وينطلق بذكر هذا المستثنى، وماذا يكون هذا المستثنى.؟ إنه «لا تقع العين على مثله». الله أكبر. إنَّ الشاعر خيب ظنَّ السامعين، وحطم أملهم بالوقوف على عيب. وجاءهم بعكس ما ظنُّوا وتوقعوا جاءهم بمدح آخر، أو تعظيم أكبر، وتأكيد بالغ لما بدا به. إنَّه «لا تقع العين على مثله» إنّه فريد المثال، عالي المقام، محالٌ أن يبلغه إنسان بسوء، أو يتشبه به مخلوق، إنّه لا مثيل له، ولا شبيه أجل. خلاصة ما نقول فيه إنه لا تقع العين على مثله.
  ذلك هو اسلوب «تأكيد المدح بما يشبه الذم»، وإذا كان ابن المعتز قد عدَّه محسنَّاً بديعياً، يزيد المعنى حُسنا، فإنَّه قد أصاب ونطق بالحق ونعم ما قال.