البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

المبحث الثاني الإنشاء

صفحة 72 - الجزء 1

  إذاً، لشعر المتنبي، وأدبه، وكلماته وجود خارجي قبل أن ينظم هذا البيت، وهذا الوجود الخارجى هو الذي فرز قوله إلى حيّز «الخبر» البلاغي.

  أما إذا سمعنا أبا فراس الحمداني وهو يخاطب حمامة تهدل على شجرة أمام باب سجنه في بلاد الروم:

  أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تَعَالَيْ أقاسِمُكِ الهموم تعالي

  تعالي تري روحاً لَدَيَّ ضعيفةً ... تَردَّدُ في جسم يُعَذِّبُ بالِ⁣(⁣١)

  فهمنا أنه ينادي جارته الحمامة، ليحدثها أن الدهر لم يعدل بينه وبينها؛ ثم يطلب منها أن تقترب منه ليقاسمها أتراحه وأشجانه، ويدعوها أن تنزل من عليائها لعلها ترى روحه الضعيفة في بدنه البالي الحزين.

  هذا النداء للجارة «أيا جارتا» وهذه الأفعال الآمرة المتكررة تعالي كان يقصد بها أن تستمع لندائه، ثم تلبي طلبه.

  والحمامة، قبل النداء لم تكن تدري من أمره شيئاً، وإذا لبت طلبه في المجيء فإنما تلبيتها تتم بعد الانتهاء من كلامه.

  ومثل هذا الأسلوب الذي يعتمد على النداء، أو على الأمر، أو على أمثالهما كالاستفهام، والتمني، وما سوى ذلك، يختلف عن أسلوب المتنبي في البيت السابق وكلام المتنبي له وجود خارجي قبل التعبير عنه، أما النداء، والأمر والنهي والاستفهام والتمني فليس لها وجود خارجي قبل النطق بها، وإنما وجودها يكون بعد التحدث بها وهذا ما فرزها إلى حيّز الإنشاء.

  ***


(١) اسمه الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي: أمير وشاعر وفارس وابن عم سيف الدولة. وكان سيف الدولة يحبه ويصحبه في غزواته أسره الروم مرتين، وقال أحلى شعره في الأسر، وهذان البيتان من شعره في الأسر «الروميات». ت ٣٥٧ هـ / ٩٦٨ م. الأعلام ١٥٦/ ٢.