صفوة الاختيار في أصول الفقه،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

مسألة: [الكلام في حال المستفتي إذا استوت عنده أحوال المفتين]

صفحة 383 - الجزء 1

  عن قبيل واحد، كأن يكونا جميعاً من قبيل الحسن، ويقول أحدهما فعله أولى مثلاً، ويقول الآخر هو مباح، فإن فتوى النادب أولى.

  فإن قال أحدهما: بأن الفعل مندوب، وقال الآخر: هو واجب، عمل بقول إمامه، وإن كان قوله الندب وكان قول العالم الآخر الوجوب فلا يلزمه الرجوع إليه، ولا يكون في حقه أحوط لأنه إذا اعتقد وجوبه اعتقد قبح تركه، فيكون مُقْدِمَاً على ما لا يأمن من كونه قبيحاً، والإقدام على مثل ذلك قبيح، وهو مع تركه راجع إلى أصل يؤمنه من الخطأ وهو العمل على قول من وجب عليه اتباعه.

  وما ذكره شيخنا ¦ من أن للعالم الرجوع إلى قول غيره إذا كان أحوط فكذلك المستفتي غير مستمر على أصولنا؛ لأن قوله عنده أرجح، وظنه به أقوى، وإن كان قول غيره أحوط فلا يجوز له الرجوع إليه لحيطته؛ لأنه متعبد باجتهاده لا باتباع الأحوط، وهذا ظاهر في مذاهب أصحابنا، وهذه المسألة يطول الكلام فيها جداً لو بلغنا به إلى غايته إلا أن فيما ذكرنا إشارة كافية بحمد الله تعالى.

  ثم نعود إلى الدلالة على صحة ما اخترناه، فنقول: الدليل على ذلك: أنه قد تقرر وجوب اتباع العالم في الفتوى على سبيل الجملة، فإن استوت عنده أحوال العلماء وبَعُدَ عليه اتباعهم في سبيل الجمع لتنافي أقوالهم، ولا بد من اعتقاد وجوبها إن قيل برجوعه إلى جميعهم، واعتقاد وجوب الأمور المتنافية مستحيل على ما ذلك مقرر في غير موضع من كتب العلم؛ لأنه يستحيل اعتقاده لوجوب الفعل الواحد في الوقت الواحد على الوجه الواحد، وإباحته أو ندبه في الحال الواحد، وما هذا حاله لا يجوز ورود التعبد به، فلم يبق إلا وجوب اتباعه لهم على وجه التخيير لاستوائهم عنده في باب العدالة والعلم.

  ويكون حالهم معهم كحال أحدنا مع البقاع الطاهرة فإنه لما وجب عليه الصلاة في بقعة طاهرة واستوت عنده البقاع في الطهارة وتعذر عليه استعمالها على وجه الجمع كان الواجب عليه الصلاة في بعضها دون مجموعها.