صفوة الاختيار في أصول الفقه،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

مسألة: [الكلام في حكم الأشياء قبل ورود الشرع]

صفحة 396 - الجزء 1

  ومنهم من قال: إنها على الإباحة قبل ورود الشرع، وهو مذهب أكثر الفقهاء وجل المتكلمين، وهو الذي كان شيخنا | يذهب إليه، ونحن نختاره.

  ومنهم من قال: بالتوقف.

  والذي يدلّ على صحة ما اخترناه: أن المعلوم ضرورة عند كل عاقل أنه إذا بلغ إلى دجلة مثلاً أو ما شاكلها من الأنهار وكان له داع إلى الشراب فإنه يستحسن الشرب بعقله ضرورة ولو توقف لانتظار الدليل والحال هذه لذمه العقلاء على ذلك، وهم لا يذمون على استقباح فعل إلا وقد تقرر عندهم حسنه ضرورة، وإنما اعتقدوا ذلك من حيث أنه ينتفع به ولا ضرر فيه عليه ولا على أحد عاجلاً ولا آجلاً.

  فإن قيل: أما الضرر العاجل فقد علم انتفاءه، وأما الضرر الآجل فهو يجوزه بأن يكون الله سبحانه قد حظره.

  قلنا: هذا باطل بأن الله سبحانه لو حظره لكان لا يحظره إلا لكونه مفسدة في الدين فلو كان كذلك لوجب أن ينصب على ذلك دلالة، ومعلوم أنه لا دليل على ذلك بل الدليل قام على خلافه، ولأن هذا التجويز لو كان مؤثراً لما علمنا حسن الشرب والحال ما ذكرنا ضرورة.

  ودليل آخر وهو: أنا نعلم بأول عقولنا أنه يحسن التنفس في الهواء والإستمداد منه ولا ينكر ذلك أحد من العقلاء، ولا علة بجوازه إلا أنه انتفاع ليس على أحد منه مشقة عاجلاً ولا آجلاً.

  فإن قيل: إنما يحسن لأنه يمسك به روحه، وهذه الحال يعلم بالعقول لأجلها جواز الإقدام على المحظور على بعض الوجوه.

  قلنا: لو كان كما ذكرتم لما حسن منه الإستمداد إلا عند مخافة التلف، ولا حسن منه تناول إلا القدر الذي يمسك روحه، ومن بلغ إلى هذه الغاية فقد خرج من حد العقلاء، وعلم قبح ذلك ضرورة.