مقدمة المؤلف
  الحديث قلت له: الدنيا فانية، والأعمار قصيرة، والمدة يسيرة، وإذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى، وإذا كانت الأنفاس بالعدد فما أسرع ما تنفذ، ويقال: أنفاس ابن آدم في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألفاً، وإن له بمشيئة الله تعالى منخرين يتنفس في الليل من اليسار وفي النهار من اليمين، صنع الله الذي أتقن كل شيء، وما دام ذلك القلب الخفاق دائباً ليلاً ونهاراً وهو لحم وبشر فما أسرع ما يتوقف بحكمة مقدرة، وحركات ميسرة، ومدة معلومة.
  فليعتبر الإنسان اللجوج بالحقائق الماثلة أمامه، فكم دول بادت، وكم أمم هلكت، وكم قوات تحطمت، وكم جماعات تفرقت وماتت، وكم أغنياء فقروا، وكم فقراء غَنُوا، وكم مبسوطين عنوا، وكم أحوال تغيرت، وكم أهوال ظهرت وانتشرت، وكم ممالك تبعثرت.
  ولينظر اللبيب في البعيد منه والقريب في إخوته وأبويه، وأقاربه، وأصحابه، وزملائه، لقوا الله تعالى ولم تبق إلا أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
  ذنوبُك يا مغرورُ تُحصى وتحسبُ ... وتجمعُ في لوح حفيظٍ وتكتبُ
  وقلبك في سهوٍ ولهٍ ... وغفلةٍ وأنت على الدنيا حريصٌّ معذبُ
  تباهي بجمع المال من غير حِلِّهِ ... وتسعى حثيثاً في الذنوبِ وتنصبُ
  أما العمرُ يفنى والشبيةُ تنقضي ... أما الموت آتِ والمنيةُ تطلبُ
  أما أنت زرع الموت حان حصادُه ... وكما تمادى في الزمان سيصربُ
  أما تذكرُ الموتَ المفاجيك في غدٍ ... أما أنتَ من بعدِ السلامة تعطبُ
  فأدركت منه حسن الإصغاء، فقلت له: يا هذا ما نسبة أعمارنا إلى الماضين، والأمم الغابرين، إلا نسبة ضئيلة قليلة، وتأمل، قيل لنوح # وكان أطول