[فصل] في الكلام في أن الله سبحانه وتعالى لا تجوز عليه الرؤية بحال من الأحوال
  {وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}[السجدة ٩]، وكذلك لا يصح منه تعالى الإسناد الحقيقي إلى الجوارح التي هي نفس العين ونفس الأذن.
  فَبِهذا عُلِمَ أنَّ المرادَ بنفي إِدراك الأبصارِ له هُو نَفيُ رُؤيَتِه تعالى من المبصِريِن بالأبصارِ، وسواء جعلنا الأبصار باقية في معناها الأصلي وهو المعنى القائم بالحدق، أَوْ أريد بِها المبصرين بها، إِلا أنه يفترق الحال بينهما في وجه التجوز، فعلى الأول التَّجوزُ واقعٌ في الإسناد نفسه، والأبصار باقية على أصلها وحقيقتها، وعلى الثاني التّجوزُ في نفس الأبصارِ حيث جعلناها بمعنى المبصرين بها والإسنادُ باق على أصله وحقيقته، وبهذا سَقَطَ اعتراضُ الرَّازي كيفما أَرَاد إِيرادَه وأينما رَاودَ إنشاده.
  فإن قلت: أي الوجهين أولى وأرجح، وأي المعنيين أبلغ وأفصح: التجوز في الإسناد وإبقاء الأبصار على حقيقتها، أَوْ العكس حسبما مر إيضاحهما؟
  قلت: في كل منهما قوة وضعف؛ لأنا إذا تجوزنا بالإسناد وأبقينا الأبصار على حقيقتها فهو قوي في {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، لكنه ضعيف في: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}؛ إذ المعلوم أنه ليس المراد من الآية أنه تعالى يدرك المعنى القائم بالحدق؛ لأنه تعالى يدرك ذلك المعنى وغيره من سائر المدركات وجميع المعلومات، فلا وجه لتخصيصها بالذكر من هذا الوجه. وإن تجوزنا في الأبصار وجعلناها بمعنى المُبصِرِين وأبقينا الإسناد على حقيقته فهو قوي بالنظر إلى إفادة المطلوب، لكن بقاء الإدراك على حقيقته في {وَهُوَ يُدْرِكُ} لاَ يتأتَّى؛ لأن الإدراك في حقه تعالى ليس على حقيقته، بل عبارة عن العلم بالمدرك؛ لأنا قد بينا أنه حقيقة في الإحساس بإحدى الحواس الخمس، ويلزم معه العلم بالمدرك، فاستعماله في حق الله تعالى من استعمال اللازم في الملزوم، وذلك نوع من المجاز، فَالأَولى أن يقالَ: إنَّه لا مانعَ من أن يُؤخذ مِن كلٍّ من الوجهين بالطرفِ الأفصح