الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين،

محمد بن يحيى مداعس (المتوفى: 1351 هـ)

[فصل] في الكلام في أن الله سبحانه وتعالى لا تجوز عليه الرؤية بحال من الأحوال

صفحة 277 - الجزء 1

  الاعتبارات المذكورة مهما قُيِّدَ المبصرين بقولنا: بالأبصار. وإنما يَرد الاعتراض على أحد الاعتبارات المذكورة، وهو حيث أريد بالأبصار الثانية المبصرِين من دون القيد المذكور، وقد بينا أنه أضعف الوجوه والاعتبارات فَلا يَنبغي حَملُ الآية عليه؛ لأن كلام الله تعالى يجب حملُه على أبلغ الوجوه والاعتبارات.

  فهذا الكلام في تقرير الاستدلال بالآية الكريمة وإبطال الاعتراض الأول، فلنثن العنان حينئذ إلى إبطال الاعتراض الثاني، فَنقول وبالله نصول: قَد حرَّر الرازي هذا الاعتراض على طريقة المَنَاطِقَة من أَنَّ السالبةَ الكُليِةَ نقيضُها موجبةٌ جزئيةٌ، فَيلزم من نفي السالبة الكُلِيَّة إثباتُ الموجبةِ الجزئية، فقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} بِمنزلة لا تدركه كلُّ الأبصار، وهذه سالبةٌ كلية، وحيث إنها منفية يلزم ثبوتُ نقيضِها، ونقيضُ السلبِ الموضوعِ له حَرف النفي الإيجابُ، ونقيضُ الكل المعلوم من صيغة العموم البعضُ، فيصير التقديرُ: بل تدركه بعضُ الأبصار، وهذا الكلامُ كما تراه غَيرُ جارٍ على قواعد الاستدلالات القطعية؛ لأن مداَره على الأخذ بالمفهوم، وهو لا يُعملُ به في الفروع إلا إِذاَ لم يعارض المنطوقَ، فكيف يَصِحُّ العملُ به في الأصول المطلوب فيها القطعُ، مع أنه مُعارِضٌ لِأدلةِ العقول وجملةِ صرائح من المنقول، فإذاً لا يُلتَفتُ إلى هذا الاعتراض الساقط الأركان المنهدم البنيان، لكنا نناقش فيه لنكشف بطلانَ ما عَوَّل عليه فنقول: هذا التأويل العليل والتحرير الذي ما عليه من دليل مبناه على أنَّ النفي موجهٌ إلى سلبِ العموم، ولسنا نُسَلِّمه، بل هو في الآية موجه إلى عموم السلبِ؛ لأن «لا» نافية للجنسِ والماهيةِ من حيث هي، فهو كقوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً}⁣[آل عمران ٨٠]، فكما أنه لا يصح أن يقال: تقدير الكلام: لا يأمركم أن تتخذوا كل الملائكة وكل النبيين أرباباً، بل يأمركم أن تتخذوا بعضَ الملائكة وبعضَ النبيين أرباباً - كذلك لا يصح أن يقال: لا تدركه كل الأبصار بل تدركه بعض الأبصار.

  وبعدُ، فَإنما كان تستقيم له هذه الدعوى لَو كانت لفظةُ «كل» مذكورة في