الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين،

محمد بن يحيى مداعس (المتوفى: 1351 هـ)

تتمة لباب التوحيد

صفحة 327 - الجزء 1

  إِذا عرفت ذلك فَاعلم أنَّ الله تَعالى لَم يُكلّف عِبَادَه العقلاء من معرفةِ ذَاته إِلا ما مَرَّ ذكره، وأمَّا غير العقلاء فلا تكليف عليهم بشيء من ذلك ولا غيره، كالصبيان والمجانين وسائر الحيوانات؛ لأن العقل مناط التكليف. فلم يكلف الله عباده العقلاء من معرفة ذاته إلا ما ذكر؛ لأنه لَو كلفهم غير ذلك ولا دليل لهم على العلم به عقلاً كما عرفت، ولا ورد السمع به كما هو المعلوم أنه لم يرد السمع بزيادة عليه - لَكَانَ ذَلِك تَكلِيفاً بما لا يعلم، ولا خلاف في امتناعه.

  نعم، وقد عَلمت أيها الطالب الرشاد مما ذكر أَنَّه لا مجال للعقل في العلم بأن له تعالى أوصافاً لا يعلمها العباد سوى ما مر، ولا أن ليس له تعالى أوصاف لا يعلمونها سوى ما مر، وقد اختلف الناس بعد ذلك بين إِفراطٍ وَتفريط، وتوقف بتوسيط، فحكى النوبختي - وهو من أهل المقالات - عن الزيدية والمعتزلة وأكثر الخوارج أن ليس لله تعالى أوصاف لا طريق للعقل إليها. قال الإمام المهدي #: لِأنا لَو قدرنا زيادته أو نقصه لَعاد على التمييز الكامل بالنقض، وَأَقْسَم على ذلك⁣(⁣١) أبو هاشم. وقال الإمام يحيى بن حمزة #، وأبو الحسين، قال ابن أبي الحديد: وهو قول علي # والأئمة مِن أولاده $: إنَّ لله تعالى أوصافًا لا يعلمها العباد، ولم يطلع العباد من معرفة ذاته على كل ما يعلم.

  والحقُّ الحقيق بالتّوقُّفِ عليه هُو ما يظهر من الكلام الذي مَرّ أنه لا طريق إِلى العلم بكل من الطرفين المذكورين، فلسنا نعلم أن له تعالى أوصافاً غير ما مر كما يقوله أهل القول الثاني، ولا أن ليس له ذلك كما يقوله أهل القول الأول، بل لا نعلم في ما عدا ما مر ذكره نفياً ولا إثباتاً؛ لأن كلاً منهما يحتاج إلى دليل، ولا دليل على أيهما، وهذا هو الظاهر من كلام الإمام القاسم والشارح @ الذي مر، وهو ظاهر، مذهب سائر الأئمة، والمطابقُ لِقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}⁣[طه ١١٠]، ولقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ


(١) أي: إنه ما يعلم الله سبحانه من ذاته إلاَّ مثل ما يعلم هو. (شرح الأساس).