[المحدث لا بد له من محدث]
  واعلم أن التماثل والتشابه يستلزمان حدوث كلا المتماثلين والمتشابهين، وأما الاختلاف فلا يستلزم إلا حدوث أحد المختلفين كالقديم والمحدث ما لم يكن قد جمعتهما صفة ذاتية كالجسمية والحيوانية والإنسانية والعرضية؛ لأنه يكفي في حصول حقيقة الاختلاف وقوعُ التأثر في إحدى الجنبتين دون الأخرى كالمحدَث والقديم، وأما التماثل والتشابه فلا بد من وقوع التأثر في كلا الجنبتين جميعاً؛ فمن ثَمَّ يقال: ليس لله مثيل، وليس لله شبيه، ولا يقال: ليس لله مخالف. وأما التناقض والتضاد فتارة يستلزمان حدوث الجنبتين معاً، كمقابلة الصفات المتنافية الجائزة بعضها ببعض كالحرارة والبرودة والحياة والموت، وكالألوان والطعوم، وتارة يستلزمان حدوث إحدى الجنبتين فقط كمقابلة المحدث بالقديم، وتارة لا يستلزمان حدوث أحدهما كمقابلة القديم بالمعدوم.
[المُحْدَثْ لا بد له من مُحْدِثْ]:
  وأما الطرف الثاني: وهو أن المحدَث لا بد له من محدِث فقد اختلف علماؤنا - رحمهم الله تعالى - في العلم بذلك، فقيل: إن العلم بذلك ضروري لا يحتاج إلى نظر واستدلال، وهو قول بعض أئمتنا $ وأبي القاسم البلخي وأبي الحسين والشيخ محمود وغيرهم. وقيل: بل العلم بذلك استدلالي، وهو قول الإمام المهدي # وبعض المعتزلة. والأول هو الصحيح؛ لأنه قد عد من علوم العقل العشرة الضرورية، قال الإمام يحيى #: مَن وَجَدَ بناءً في فلاة فإنه يعلم أن له بانيًا ضرورة.
  قلت: والأظهر - والله أعلم - أن أهل القول الثاني إنما أرادوا بذلك في الغائب فقط، فأما الشاهد فلا تتصور مخالفتهم فيه؛ لأنهم يقيسون احتياج فعل الغائب إليه(١) على احتياج فعل الشاهد إليه، وإلا لجاز عندهم وجود دار مبنية على أكمل البناء، ووجود سفينة بجميع آلاتها، وصيغِ حلية من الذهب والفضة - بلا
(١) أي: إلى الفاعل.