فصول في العلم الإلهي
  إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري، فإذا قد شهدت أعلام الوجود على أن الجاحد لإثبات الصانع، إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه؛ لأن العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم وإن كابروا بألسنتهم، ولم يذهب أحد من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه.
  وأما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة، وأن الطبيعة هي المدبرة له، والقائلون بتصادم الأجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له حتى حصل منها هذا العالم، والقائلون بأن أصل العالم وأساس بنيته هو النور والظلمة، والقائلون بأن مبادئ العالم هي الأعداد المجردة، والقائلون بالهيولى القديمة التي منها حدث العالم، والقائلون بعشق النفس للهيولى حتى تكونت منها هذه الأجسام، فكل هؤلاء أثبتوا الصانع وإنما اختلفوا في ماهيته وكيفية فعله.
  وقال قاضي القضاة: إن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى نفي الصانع للعالم بالكلية ولكن قوما من الوراقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها، وهي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه ولا إله للعالم، ولا صانع أصلا، وإنما هو هكذا ما زال ولا يزال من غير صانع ولا مؤثر.
  قال: وأخذ ابن الراوندي هذه المقالة فنصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج قال: فأما الفلاسفة القدماء والمتأخرون فلم ينفوا الصانع، وإنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار، وتلك مسألة أخرى قال: والقول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة، بل هو هو بعينه؛ لأن من شك في المحسوس أعذر ممن قال: إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها.
  وقول قاضي القضاة: هذا هو محض كلام أمير المؤمنين # وعينه وليس قول الجاحظ هو هذا؛ لأن الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف والعلوم الإلهية ضرورية، ونحن ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري، فأين أحد القولين من الآخر.