أقوال القائلين بالإرجاء:
  وافقه، وهو قول طائفة من المتأخرين ممن يتسم بأنه من أهل السنة، ويقولون: هو تحت المشيئة، لكنهم يرجحون العفو، ويحتجون له بحجج سائر المخالفين، فلا يستقر لهم مذهب مُعَيَّن ولا قول مُبَيَّن.
  وأنت خبير بأنه لا بد من الدليل القطعي على من ذهب إلى أي هذه الأقوال الأربعة، وأن كل فرقة منهم لا يصح لها الاحتجاج بما هو حجة للأخرى؛ لما بين هذه الأقوال من التنافي والتناقض والاختلاف، وإن جمعها الجميع القول بالإرجاء، وعدم القول بخلود الفساق في النار.
  ثم إذا تأملت ما يدل على قول كل فرقة على حالها لم تجد له دليلاً يخصه وينصر مذهب تلك الفرقة بعينه حتى يمكن أن يقال: هو الحق دون سائرها؛ لذلك ترى المقبلي والجلال والسيد هاشم وغيرهم ممن أرجى من المتأخرين يحتج بحجج جميع المرجئة، ويجعلون النتيجة أنه تحت المشيئة، وينتصرون لما يدل على القطع بالعفو من دون توبة، ويوسعون القول في ذم الوعيدية، ويُجهدون نفوسهم في مناظرتهم وإبطال حججهم، على أن قولهم: «إنه تحت المشيئة» معناه التوقف كمذهب أبي حنيفة، ثم ترجيحهم العفو عن صاحب الكبيرة خروج منه، ثم انتصارهم له وجدالهم الوعيدية خروج عن الترجيح، ودخولهم في مذهب من قطع في الفساق بحكم من أهل الثلاثة الأقوال الأولة، فإما أن يكون مع القول بأنه لا وعيد على مسلم كما صرح به المقبلي في علمه الشامخ أو زوائده فذلك لحوق بمذهب مقاتل بن سليمان وأصحابه، أو مع القول بورود الوعيد والقطع بتخلفه فذلك لحوق بمذهب أبي شمر وأصحابه، وكلا المذهبين عندهم هو الإرجاء الأكبر المذموم، أو مع القول بوصول الوعيد إلى أهل الكبائر ودخولهم النار ثم الخروج منها فذلك لحوق بمذهب الأشعرية، ومناف لقولهم: هو تحت المشيئة، وبهذا يعلم صحة ما قلنا: إنه لا يستقر لهم مذهب مُعَيَّن ولا قول مُبَيَّن.