الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين،

محمد بن يحيى مداعس (المتوفى: 1351 هـ)

فصل: في الكلام في أن الله تعالى حي

صفحة 159 - الجزء 1

  السائل، فإن أهل الإلحاد إنما أنكروا العلمَ بكونه تعالى حيًّا لإنكارهم أنه فاعل مختار، وهو أمر استدلالي، والمعتزلة ومن وافقهم إنما قالوا: إنه استدلالي لشبهة سَبَقَتْ إليهم، وهو أنه لا يصح أن تعلم الذات والصفة ضرورة، وهذا لا يرد علينا إلا إذا قلنا: إن الصفة تُعلم ضرورة بكل حال: عُلمت الذات أم لا.

  إن قيل: فالضروري ما لا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة، وهؤلاء قد انتفى عنهم العلم بكونه ضروريًّا لتلك الشبهة المذكورة، وأهلُ الإلحاد انتفى عنهم العلم بكون الله تعالى حيًّا بما حرروه من الشبه التي أفضت بهم إلى ذلك القول.

  قلنا: قد يكون العلم ضروريًّا والعلم بكونه ضروريًّا استدلاليٌّ، ألا ترى أن العلمَ بتعلق الفعل بفاعله من حيث إن العِمَارة لا تصح إلا من عَمَّار معلومٌ لكل عاقل علما ضروريًّا بحيث لا يختلف في ذلك اثنان، فهاهنا أمران كلُّ واحد منهما معلوم لنا، أحدُهما صفة للآخر، فالموصوفُ العلم، والصفةُ كونه ضروريًّا، فالعلم بكون العمارة لا تصح إلا من عَمَّار حاصلٌ لكل عاقل، فأما كونه ضروريًّا فإنما استدللنا عليه بقولنا: «بحيث لا يختلف في ذلك اثنان»، فلما نظرنا أنه لا يختلف في ذلك اثنان علمنا أنَّ ذلك العلمَ ضروريٌّ، فالذي تطرقت إليه الشبهة وأثَّرت انتفاءه عند مَن ذكر من المعتزلة ومن وافقهم هو كونُه ضروريًّا، لا نفس العلم من ذاته فهو باق لديهم، وإنما خلافهم في كونه ضروريًّا، فتأمل.

  وأما انتفاء العلم بكونه تعالى حيًّا عند أهل الإلحاد فلا يقدح في كونه ضروريًّا إلا لو قدرنا موافقتهم لنا في كونه تعالى فاعلاً مختاراً ثم يخالفون في كونه حيًّا، فأما وهم مخالفون في نفس إثبات الصانع فلا يقدح على من أثبته فاعلاً مختاراً في العلم الضروري أنَّه حيٌّ، لأن مثابة هذا الخلاف مثابة رجلين رَأَيا شبحاً على بُعْدٍ: علمه أحدهما قطنا وظنه الآخر حجراً، فعلم الأول أنه قطن وإن كان عن استدلال لا يقدح عليه إنكارُ مخالفه في أن النار تحرقه ضرورة لَمَّا خالفه في الأصل أنه قطنٌ واعتقد أنه حجر؛ إذ لو سلم أنه قطن لَعَلِمَ أن النار تحرقه ضرورة، فتأمل.