فصل: في الكلام في أن الله قديم
  ولنقرره بمثال في الشاهد يعلم به أنه هو الحق بلا مرية، وهو أنا إذا رأينا بناءً أو نجارة أو غير ذلك من الأفعال المشاهدة فإنا نعلم أنه لا يصح وجودها وإحكامها إلا من ذات متصفة بثلاث صفات، فالذات ذات زيد الفاعل وهي الجسم المشاهد، والصفات الحياة والعلم والقدرة، لكن لَمَّا علمنا بالأدلة القاطعة أن هذه الحياة والقدرة والعلم هي من جملة الأعراض والمعاني الداخلة في جملة مخلوقات الله ø، كما مر في مسألة إثبات الصانع، وأكد ذلك السمع القطعي في قوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}[الملك ٢]، {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}[الروم ٥٤]، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل ٧٨]، {وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ}[البقرة ٢٨٢]، {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}[الحج ٥] - علمنا(١) أنها مستحيلة على الله تعالى.
  وقد تقرر أن الله تعالى قادر عالم حي، فلم يبق إلا القول بأن ذاته تعالى سادة مسد الجميع، وأنه يصح منه الفعل بمجرد ذاته تعالى من دون احتياج إلى تلك المعاني التي هي القدرة والعلم والحياة؛ لاستلزام الحاجة إليها، والله الغني إجماعاً كما سيأتي، واستلزام الحلول المتفرع على التجسيم، والحدوث، وهو تعالى ليس بجسم إجماعًا كما سيأتي أيضاً، وهو قديم إجماعاً كما سبق، واستلزامِ التعدد، وهو تعالى واحد في ذاته؛ فلا يجوز على ذاته تعالى التعدد والتركيب من الماهيات المختلفات إجماعاً؛ لاستلزام الحدوث، وهو تعالى قديم، فلم يبق إلا القول بنفي تلك المذكورة، سواء سميناها مزايا أو صفات أو أموراً أو أحوالاً أو معاني، فالكل اختلاف في اللفظ واتفاق على إثبات ما قضى العقل بنفيه وتنزيه الله تعالى عنه، والحكم بأن القدرة والعلم والحياة في حقه تعالى لا وجود لها البتة، وذاته تعالى في صحة الفعل وتدبيره وإحكامه مستغنية عنها.
(١) جواب «لَمَّا».