[فصل] في الكلام في أن الله سبحانه وتعالى لا تجوز عليه الرؤية بحال من الأحوال
  وهذا لا ينكره الخصوم، ولكنهم زعموا أنَّ وجهَ التّمَدُّحِ في ذلك من حيث إِنه تعالى لا تحيط به الأبصار، لا من حيث إنها لا تدركه وتراه.
  قلنا: هذا كلامٌ سَاقطٌ وخلافٌ لِما يَسبِقُ إلى الفهم من معنى الآية، فلا يجوز العدول إليه. وَبَعد، فَمِن شأن التَّمدح أنْ يكونَ وصفاً لا يشاركه غيره فيه إِلا ويكون ممدوحاً بما مدح به، وهذا المعنى الذي حَملوا المدحَ عليه - وهو أن الأبصار لا تحيط به تعالى مع إِدراكها له بزعمهم - لا يختص به الباري تعالى؛ لأن السماواتِ والأرضَ والبحار والقفارَ الواسعةَ تُدْركُها الأبصارُ ولا تحيطُ بها، بل هذا معلومٌ في أكثر المرئيات، فإنا نَرى الجبالَ والأشجارَ والأحجارَ والحيواناتِ ولا تحيطُ أبصارُنا منها إِلا بما قَابلَ الراَّئي منا لها، دون سائرِ الجوانب الآخَرة وبطونِها وقعورِها، فَبطلَ ما زعموه بِلا رَيبَ، وإِنما وَجهُ التَّمدُّحِ في ذلك مِن حيث إِنه تعالى يرى المرئيات جميعَهاً وهي لا تراه، ولا يرد عليه أنَّ القدرةَ والعلمَ والحياةَ ونحوَها مِن سائر المعاني، وكذلك المعدوم على القول بأنه شيء قَدْ شَارَكتهُ تعالى في أَنها لا تُرى بالأبصار، فَيبطل التمدّحُ؛ لأنا نقول: وَجه التمّدح مركبٌ من الوصفين: كونه تعالى يرى الأشياء كُلَّهَا ولا يراه شيء منها، وهذه المذكورة وإِنْ شاركتْهُ ø في الوصف الأخير - وهو كونها لا يراها أحد - فهي لا تشاركه في الوصف الأول، وهو كونه يراها كلها، فصار ذلك كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}، فَإِن هذا الوصفَ وحده غيرُ كافٍ حتى ينضمَّ إليه الوصفُ بكونه تعالى حياً، وكالوصف بِكونه تعالى لا يطعم حتى ينضم إليه الوصف بكونه يطعم؛ لأن الجماداتِ والأعراضَ تشاركه في كونِها لا تأخذها سنة ولا نوم، وكونِها لا تطعم، ولكن لم يَصِر ذلك مدحاً في حقها لاختلال المصحح والمقتضِي لذلك الوصف، وهو الحياة، فيصير وجه التمدح هو عدم حصول المقتضَى - وهو السِّنَة والنوم وأن لا يطعم - مع حصول المصحح وهو كونه تعالى حياً، وهو وصف خاص بالله تعالى لا يشاركه غيرهُ