[فصل] في الكلام أن الله واحد وأنه لا إله إلا هو سبحانه وتعالى
  وفي معنى الآية المذكورة وأصرح منها في الدلالة على العدل والتوحيد قولُه تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}[فاطر ٤٠]، فرتب سبحانه وتعالى الدلالَة في هذه الآية على نمط استدلال المتكلمين في تقديم الدليل العقلي على السمعي، وقدم الأقربَ إليهم وإلى قطع شغبهم فقال تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ} لَمَّا كانت الأرضُ وما فيها أقربَ إليهم، وأتى بـ «ما» العامة لما يَعقِل وما لا يَعقِل ليتناول جميع المخلوقات، ثم قال: {مِن الأَرْضِ} ولم يقل: في الأرض؛ ليفيد أن تلك الأصنام وغيرها مما ادعي إِلَهِيّتُه لَم تخلق شَيئاً لا في الأرض ولا من الأرض، ولم يجعل الكلام في ذلك مبنياً على مجرد الدعوى، بل جعل معه دليله القاطع على صدقه، بأن تحداهم وأرشدهم إلى الدليل النافع فقال: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا}، فلمَّا لم يروه شيئاً في الأرض ولا من الأرض مخلوقاً لآلِهَتِهم نَقلَ الكلام في الحجاج إلى الأبعد عنهم، وهو العالَم العلوي، فقال: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي: أم هل لهم مشاركة في أحوال السماوات من إنزال الأمطار منها، وتسيير الشمس والقمر والنجوم والبروج والأفلاك؟ ولَمَّا لم يكن شيء مما ذكر من الدلالة العقلية يكون لهم متمسكاً أَرخَى لهم العنان على ما هي القاعدة في المحاججة، فانتقل معهم إلى المطالبة بما معهم من الدلالة السمعية إن كان معهم شيء منها فَقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ}، وَلَمَّا كانت الأدلة السمعية من حيث هي بَينَ محكم ومتشابه وظاهر ومتأَوُّل وصريح واقتضاء وغير ذلك من أقسام الدلالة المذكورة في مواضعها بَالَغَ معهم في إِرخاء العنان فقال: {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ}، وَنكَّر(١) البينةَ ليعم أيَّ بينةٍ كانت من الدلالات المعتبرة في الخطاب، ووصف البينة بأنها منه - أي: من
(١) الأوجه: نَكَّرَ إيضاحا للسياق، ولعله تصحيف من الناسخ.