[فصل:] في الكلام في أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى
  العبد، فالإلزام ساقط بالنظر إلى ما أخبر به تعالى في الكتب المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة؛ لا نقول: إذا جاز عندكم أن يفعل ويخلق هذا الكذب كله على كثرة أنواعه المذكورة وغيرها، ومن كل نوع ما لا ينحصر إلا له ø - فليجز أن يفعل ويخلق ما هو أقل عدداً وأيسر أمدا؛ لأن الجمل الإخبارية في الكتب المنزلة وعلى ألسنة الأنبياء المرسلة قليلة جداً بالنظر إلى ما ذكر من أنواع الكذب وغير ما ذكر مع طول أمده وتتابع وجوده، ألا ترى أن كل نبي يبعث رسولاً إلى قوم فإن المكذبين له أكثر من المصدقين على أن المصدقين أكثر عدداً من آي الكتاب، والجمل الإخبارية ليست إلا البعض من آياته.
  لا يقال: إن كلماته التي أحاط بها علمه تعالى - وإليها الإشارة بقوله: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}[الكهف ١٠٩]، وبقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}[لقمان ٢٧] - تزيد على ما ذكرتم من أنواع الكذب زيادة لا يسعها إلا علمه تعالى، وكلها صدق، والحكم للأكثر.
  لأنا نقول: كلامنا فيما وصل إلينا من الكلمات التي اشتملت عليها كتبه وبلغتنا رسله، وهو قياس تجويز الكذب فيها على ما قد علم وقوعه عند الخصم على ألسنة الخلق؛ فيحصل التجويز قياساً على الوقوع من باب الأولى، وحينئذ فلا يحصل القطع بصدق ما ورد من السمع على مذهب الخصم.
  وبعد، فقوله: في الكلمات التي أحاط بها علمه تعالى، وكلها صدق، والحكم للأكثر - إنما يستقيم القول بأن كلها صدق على القول بالعدل، فأما على القول بالجبر فلا يتأتى ذلك؛ لأنه تعالى غير منهي عن الكذب، وإذا كان غير منهي عنه لم يفترق الحال بين قليله وكثيره، فلا سبيل لهم إلى القطع بأن تلك الكلمات بعضها صدق فضلاً عن كلها. وكذلك قوله: والحكم للأكثر - لا يسلم خصوصاً في الأخبار ونحوها، فإنه متى علم الكذب من المتكلم لم يوثق بخبره