[فصل:] في الكلام في أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى
  قلنا: ما أنكرتم أن ذلك الفضل هو إرسال الرسل وإيضاح السبل والتوفيق، ومعلوم أنه لولا ذلك لما عرفت الشرائع والأحكام، ولا اجتنب الحرام، فيكونون موافقين للشيطان في ارتكاب المحرمات والإخلال بالواجبات، فمن أين لكم أن المراد: لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ بخلق الإيمان فيكم؟ ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أبداً}[النور ٢١].
  قالوا: قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}[الكهف ٢٨].
  قلنا: المعنى حَكَمنا على قلبه بالغفلة، أو وجدنا(١) قلبه غافلاً، ويستعمل الغفْل في الطريق الذي لا منار له، وفي القِدْح الذي لا نصيب له، وفي الشيء الذي لا سمة له، يقال: أغفل أبله، إذا لم يسمها، والإغفال: الترك، يقال: أغفل الموصي ذكر الدين الذي عليه، أي: ترك ذكره. على أن المصدر - وهو قوله: {ذِكْرِنَا} - مضاف يحتمل أنه من باب الإضافة إلى الفاعل، فالمعنى تركنا ذكره لدينا مع من نذكره من المؤمنين، أو من باب الإضافة إلى المفعول كما هو مطلب الخصم، فلا يسلم لزوم خلق الغفلة؛ لأنها من باب العدم، فلا تحتاج إلى خلق، ومع أن الذكر يأتي تارة بمقابل الغفلة فلا معنى له(٢) هاهنا، وتارة بمعنى ذكر الثناء والمدح، وتارة بمعنى الشرف والفضل {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف ٤٤]، وتارة بمعنى التذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}[القمر ١٧]، ويطلق اسماً للقرآن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ}[النحل ٤٤]، وتارة على الرسول ÷ {ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ}[الطلاق ١١]، وإذا كان الأمر كما ذكر من تعدد معاني الذكر ومعاني الغُفْل والإغفال بطل الاستدلال عند الخصم؛ لأن ذلك من المتشابه، ولا يعلمه إلا الله.
  قالوا: قال تعالى حاكياً لحال الكفار: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
(١) أي: علمنا.
(٢) أي: لأنه يصير التقدير: تركنا ذكره. (من خطه ¦).