الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين،

محمد بن يحيى مداعس (المتوفى: 1351 هـ)

[الفرق بين المعجز والسحر]

صفحة 583 - الجزء 1

  يتأتى منهم ذلك إلا أن يبينه لهم ويدعوهم ويرشدهم إليه غيرهم. وإنما قلنا: إن هذه الجملة الأخيرة راجعة إلى الرسول ÷ وإلى المشركين، وليست كالأولى راجعة إلى الله تعالى وإلى الأصنام - لأنه لا معنى للاستثناء في حق الأصنام؛ لأنه لا يصح أن يقال فيها إنها لا تهدي إلا أن تهدى؛ لأنها جماد لا يصح فيها هذا المعنى. ولما كانت هذه المحاججة والمسألة المذكورة من أول الآيات ختم الكلام بما يعود إلى جميعها؛ بأن أنكر عليهم الحكم في جميع ذلك بغير الصواب، وبالغ في الإنكار حتى أخرجه مخرج السؤال عن ماذا غَيَّر عقولهم وقلبها حتى لم تدرك الحكم الصحيح في هذه المعدودات مع كونها بين مصادق به وبين قائم برهانه فقال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.

  فانظر أيها المطلع - وفقك الله تعالى وإيانا - هل وجدت كلاماً في أكاليم البشر من سلف منهم ومن غبر هل تجد فيه ما يداني هذا الكلام أو يقرب إليه في كثرة جمله واختصارها، وإفادتها لكل معنى مراد، واحتراسها عن كل معنى لا يراد لما فيه من الفساد، وتناسق العطف بينها، ومناسبته فيما عطف منها، وقطع العطف فيما لم يحسن منها، وخروج الكلام في كل جملة منها على مقتضى الحال بحيث لا يزيد على المعنى المراد منها ولا ينقص منه شيئاً، وجزالة الألفاظ، وسلامتها عن الغرابة والوحشة ومخالفة القياس، وتناسبها وتناسب حروف كل جملة منها حتى لا يستثقل في النطق شيء منها، واشتمالها على ما يفوته التعداد من أنواع البدائع، كما قد أشرنا إلى بعض من ذلك، وحسن الابتداء والتخلص، واشتماله من المحاججة القولية مع البراهين العقلية على إثبات الصانع جل وعلا، وعلى كمال صفاته سبحانه وتعالى، وإثبات توحيده وعدله وحكمته بما لا يبقى معه شغب لمشاغب ولا ريب لمرتاب إلا على وجه العناد وعدم الإدراك للحقائق، فأين تبلغ فصاحة المفلقين من فصاحة هذا الكلام؟ وأين يتاه ببلاغة المصقعِين عن بلاغة هذا الإلمام؟ وأين تبلغ أدلة المتكلمين ومقدمات المنطقيين مما بلغ إليه هذا المقال من البرهان، وما قطعه من شبه أهل