[بقية الباب الثالث]
  وحجة أهل القول الثاني: أن ما ذكر من مقتضى التكليف بالإمامة من حفظ بيضة الإسلام وإقامة الحدود ونحو ذلك واجبات شرعية، ولا مجال للعقل في وجوبها، وما كان المقتضي لوجوبه شرعياً فهو شرعي لا عقلي.
  وأجيب: بأن التظالم والفتن لا تكاد تنفك في الأزمنة والبلدان فوجب دفعه عقلاً؛ لأن دفع الضرر عن النفس واجب عند جميع العقلاء، ولهذا فإنه لا يخلو عصر أو قطر في الإسلام أو غيره من سائر الملل عن نصب رئيس ذي سلطان وأعوان يدفعون عن آحاد الناس ما وقع بهم من تعدي بعضهم على بعض، وإذا كان ذلك الرئيس ذا نظر سديد في دفع الفتن والمفاسد وجلب المصالح، وكان عادلاً في الرعية صلحت أمور العباد، وقل الظلم والفساد فيما تحت ولايته من البلاد، وهذا لا شك فيه، ولم يفترق الحال فيه بين ما كان أهل ذلك العصر أو القطر ينتسبون إلى شرع نبي أو لا، ولو كانت شرعية محضة لاختص بذلك أهل الشرائع فقط كالمسلمين والكتابيين، على أنه لا يسلم أن ما كان المقتضي لوجوبه شرعي فهو شرعي فقط، بل يمكن أن يقال: إذا نص الشارع بوجوب قطع يد السارق وخلف من سعى في الأرض فساداً، وكان القطع لا يتم إلا بسكين حاد فتوجيد سكين على تلك الصفة واجب، وهذا الوجوب لم يَنُص عليه الشارع، بل ترك(١) النص عليه لما علم أن عقول المكلفين بذلك الفعل ستقضي به من باب ما لا يتم الواجب إلا به يجب لوجوبه.
  لا يقال: إن مالا يتم الواجب إلا به لا يخلو: إما أن يكون وجوب ذلك الواجب عقلياً فوجوب ما لا يتم إلا به مسلم أن وجوبه عقلاً، كوجوب النظر في معرفة الله، فإنه وجب عقلاً لما كان الواجب شكر نعمه تعالى بضرورة العقل، ولا يتم الشكر إلا بالنظر عقلاً، أو لما كانت المعرفة لطفاً، وإما أن يكون وجوب
(١) لفظها: في الأصل: لترك. وما أثبتناه يستقيم به المعنى ..