شرح نهج البلاغة،

ابن أبي الحديد (المتوفى: 656 هـ)

فصل في ذكر أحوال الذرة وعجائب النملة

صفحة 58 - الجزء 13

  بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها وتعيد إليها جفوفها ويمر بها النسيم فينفي عنها اللخن والفساد.

  ثم ربما بل في الأكثر تختار ذلك العمل ليلا لأن ذلك أخفى وفي القمر لأنها فيه أبصر فإن كان مكانها نديا وخافت أن تنبت الحبة نقرت موضع القطمير من وسطها لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت وربما فلقت الحبة نصفين فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس ولها مع لطافة شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح ما ليس لشيء فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة وليس بقربه ذرة ولا له عهد بالذر في ذلك المنزل فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة فترومها وتحاول نقلها وجرها إلى جحرها فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت وخلفها كالخيط الأسود الممدود حتى يتعاون عليها فيحملنها فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع ثم انظر إلى بعد الهمة والجرأة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرة وأكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة وليس شيء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها.

  فإن قال قائل فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة فعجزت هي التي أخبرت صواحباتها من الذر وأنها التي كانت على مقدمتهن قيل له لطول التجربة ولأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها ثم