شفاء غليل السائل عما تحمله الكافل،

علي بن صلاح الطبري (المتوفى: 1071 هـ)

[الاختلاف في جواز الاجتهاد في عصر النبي ÷]

صفحة 204 - الجزء 2

  وما روي أنه قال لأبي موسى حين وجهه إلى اليمن: «اجتهد رأيك»، فلو لم يكن الاجتهاد جائزاً في عصره ÷ لما أمر من أمر ولا دعا لمن دعا، ومن جعل هذه الأخبار دليلاً على الوقوع فقد أبعد، سيما الآخرين⁣(⁣١).

  (و) اختلفوا في الوقوع، فأكثرهم على (أنه وقع ممن عاصره في غيبته) عن مجلسه مسافة لا يمكن مراجعته في الحادثة لتضيقها. ويحتمل أن المراد بالغيبة: الغيبة عن البلد، أو مسافة القصر، أو ما يشق معها الارتحال؛ لخبر عمرو بن العاص قال: كنت في غزوة ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة، فأشفقت على نفسي إن اغتسلت بالماء هلكت، فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فذكرت لرسول الله ÷ فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟» فقلت: سمعت الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}⁣[النساء ٢٩]، فضحك رسول الله ÷ ولم يقل شيئاً.

  (وحضرته) ما ليس كذلك، بإذنه ÷، كحكم سعد بن معاذ في بني قريظة، وذلك أنه ÷ قال لهم: «ألا ترضون أن نُحَكِّمَ فيكم رجلاً منكم؟» قالوا: بلى، قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ»، وقد كان سعد جعله النبي ÷ في خيمة في جانب مسجده؛ ليعوده من قريب، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار وأقبلوا به وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فيقول لهم: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم؛ فحينئذ أيس قومه من بني قريظة، ونعوهم إلى أهلهم قبل أن يحكم.

  ولما أقبل إلى النبي ÷ قال لمن عنده: «قوموا إلى سيدكم»، فقيل: أراد الأنصار خاصة، وقيل: عم الكل، فحكم سعد بقتل الرجال، وقسمة الأموال،


(١) أي: خبر معاذ، وخبر أبي موسى، فإنهما إنما يدلان على الجواز لا على الوقوع.