كتاب التوحيد والتناهي والتحديد الجزء الأول
  لا يجعل العين إلا عالم بما جعل(١) من النظر، [ولا يجعل الأنثى إلا عالم بما جعل لها من الذكر](٢)، ولا يجعل العقول المميزة إلا عالم بما يحتاج إليه ذو الألباب من الاجتلاب للمنافع والنفور عن المضار، ولا يجعل الأيدي والأرجل، وغيرها من العروق والعصب والمفاصل، إلا عالم بما سيكون من حركاتها، واجتلابها لمنافعها، ولا المراضع في أجساد الإناث، إلا عالم بما سيكون من أولادها قبل الإحداث.
  وما علم من حاجتها(٣) إلى ما جعل لها من الأغذية قبل كونها، فجعل تقدُّمَه غذاء الطفل بلطفه، لما علم من فاقته وضعفه، وألهمه الرضاع وجبره عليه، لما علم من حاجته إليه، ولولا هداية الله سبحانه للأطفال لهلكوا ودمروا.
  ألا ترى إلى أطفال البهائم عند خروجها من بطون أمهاتها، كيف تقصد مواضع أغذيتها ولذاتها، وما جعل الله سبحانه من قوام أرواحها وحياتها، ولا يجعل السمع إلا عالم بفاقة صاحبه إلى درك الأصوات، ولا يجعل الأبصار إلا عالم بفاقة أصحابها إلى الهيئات(٤)، ولا يجعل المعايش والأرزاق إلا عالم بفاقة من جعلت له من الحيوانات، ولا يجعل في الجسد مداخل للأغذية ومخارج قبل كون ذلك إلا عالم بفاقة الإنسان إلى مداخل ذلك ومخارجه، إذ لا قوام له ولا ثبات للتدبير، إلا بما قدر الله سبحانه من التقدير، فلما استحال عند ذوي الألباب أن تكون العلل الميتة عالمة حية مدبِّرة، متقِنة للصنع مقدِّرة، علمنا عند ذلك بيقين أنه لا صانع حكيم، مدبر قدير عليم، إلا الله الحي القيوم.
(١) في (ب): بما جعل لها.
(٢) ما بين المعكوفين ساقط في (ب).
(٣) في (ب): فاقتها.
(٤) في (ب): إلى درك الهيئات.