باب الدلالة على حدث الأجسام
[تعدد الحكم الإلهية في خلق البرية]
  ألا ترى إلى ما بث الله من الخلق، وما بسط لهم بعد خلقهم من الرزق الذي لولا هو لهلكوا ودمروا، ولما تناسلوا ولا كثروا، ولما ثم بقاء ولا صبروا، فلعلمه بفاقتهم رزقهم، ولإنفاذ الحكمة خلقهم، ولحسن التدبير فطرهم، وبالطاعة والرشد أمرهم، وعن الفواحش زجرهم، وللكفر حذرهم، وبالثواب وعدهم وبالعقاب على المعصية أوعدهم.
  فسبحان من لا تحصى آياته، ولا تنقطع أبداً دلالاته، فلو لم يكن لنا من الآيات إلا ما ذكرنا من صنع الله في الحيوانات لكان ذلك عليه دليلاً، ولكان علماً عظيماً جليلاً، من النطف الحقيرة خلائق مبثوثة كثيرة لا يحصيها إلا خالقها ومبتدعها ورازقها، وما جعل من ذكورها وإناثها لتكثير نسلها وإحداثها، ثم جعل في الذكور من الشهوة للإناث ما جعله سبباً للجعل والإحداث، وجعل النسل في أصلاب الذكور لتمام الحكمة والتدبير.
  ثم جعل لذلك النسل مسالك إلى أوصال الإناث، فاتصل بإذن موصله، وانفصل من الأصلاب بمشيئة الله رب الأرباب، فأحسن الصور في الأرحام بإكمالها بعد أخذها من الأصلاب وإنزالها، ثم أخرجها من بطون الأمهات وركبها [على الأغذية](١) واللذات، فجعل لتلك النسول قبل إخراجها أغذية لعلمه بفاقتها، وجعل لتلك الأغذية من ألبان أمهاتها المركبة لهم في أجسادها، لعلمه بضعف الأطفال عن غيرها مما تتغذي به بعد كبرها فجعل غذاء الطفل الصغير بلطفه غير غذاء الكبير لما علم من طفوليته وضعفه، ثم ألهم هذه النسول رضع أغذيتها ليتم بذلك ما أراد من حياتها.
(١) ما بين المعكوفين من (ب).