كتاب شواهد الصنع والدلالة على وحدانية الله وربوبيته
  ثم نظرنا إلى ما جعل فيهم من المفاصل المفصلة التي لا يصلح التدبير ولا يتم إلا بها، فجعل المفاصل للحركة والمسير، والقيام والقعود، والإقبال والإدبار، ولم يكن ذلك ليتم إلا بما جعل من الأبصار، المضيئة المنيرة في الليل والنهار، الهادية في البر والبحار، ولولا تلك النواظر لما تم التدبير، ولكان العمى من أعظم المهالك والتدمير، ثم جعل الألسن الناطقة، وجعل الأسماع الواعية، وجعل العقول المميزة، التي لولا هي لهلك المخلوق، فجعلها لاجتلاب المنافع ونفي المضار، ومعرفة الخيرات والسرور، واستخراج عجائب الأمور.
  ثم ركب الأجساد على النعم(١) واللذات، والمعايش المقرونة بالحياة، من الأرزاق المبسوطة، المنزلة المجعولة(٢)، التي لا قوام لهم إلا بها، ولا غنى لهم أبداً عنها، وعلم أن تلك الأغذية لا تتم إلا بالوصول إلى أجسادهم، ومباشرة بطونهم وأكبادهم، فجعل لها(٣) مداخل اضطرهم إليها، وبناهم بناءً عليها، وعلم أنه إن لم يجعل لذلك الغذاء مخارج قبل كونه في بطونهم، هلكوا(٤) ودمروا، ولم ينموا ولم يكثروا، فقدم ذلك وجعله، وركبه وفعله، لعلمه بفاقتهم إليه، فركبهم وبناهم عليه، رحمة منه لهم، وتفضلاً عليهم.
  وعلم ø أنهم لا ينمون ولا يكثرون إلا بما جعل في الإناث والذكور، وما في تناسلهم من التدبير، وعجيب الصنع والتقدير، فجعل منهم إناثاً وذكوراً، ليكون للنسل أصولاً، وصنعاً عجيباً جليلاً، فجعل ذكور الأشياء قبل(٥) إناثها، لما أراد من جعل الحيوانات وإحداثها، ثم جعل
(١) في (أ): المنعم، والصواب: النعم. مثبت من (ب).
(٢) لم تتضح ف (ب).
(٣) في (ب): فجعل لهم.
(٤) في النسخ المخطوطة: وإلا هلكوا. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(٥) في (ب): غير إنائها.