باب تفسير العدل
  ودليل آخر: أنه لا شيء أحسن من تركيب القوة في الأجساد والإستطاعة في جميع العباد، وإذا كان ذلك حسناً في المعقول من فعل الواحد الحكيم الجليل، فلا بد أن يأمر بصرف ذلك في البر والرشاد، أو في اللهو واللعب والفساد، فالعقول تشهد أن الحكيم لو أهملهم من الأمر بالطاعة لضلوا وفسدوا ولما اهتدوا أبداً ولا رشدوا، فمن هذا الوجه وجب أن يرسل إليهم الرسل بفضله وحكمته في الأمور وعدله.
  فإن قال: أليس قد زعمتم أن العقول كافية وأنها حجج وبراهين شافية؟
  قيل له ولا قوة إلا باللّه: إن العقول لا تعجز عن تمييز الخيرات من الشرور، ولا تكل عما استعملت فيه من الأمور، فإما أن تدرك فروض رب العالمين أو تستوعب جميع شرائع الدين، فهذا ما لا يوجد في العقول، ولا يتهيأ إلا بالكتاب والرسول، لغلبة ما فطر الله من الهوى وأشغال حلاوة الدنيا ومنازعة الأنفس إلى ما تهوى، والعقل فإن كان شاهداً عدلاً وكان الخير عنده من الشر أولى وأحسن وأبين فضلاً، فإن في الأنفس من فطرة الشهوات ومنازعتها إلى اللذات ما يُحَسِّن كل قبائح الأمور لغلبة الفطرة على المفطور، فما الذي يزجره عن الحرام، ويفرق له بين البر والآثام، إذا لم يكن ثم شرائع إسلام، وتبيان كل حلال وحرام.
  فأما الذي لا يعذر فيه أحد من الأنام في بلاد الكفر والإسلام، فهو شكر المنعم على ما أنعم به واتباع الحسن في كل أسبابه والتفكر في هذا الصنع العجيب، والإقرار بحكمة الحكيم، والبحث عن المحدث والقديم، فإن من كان من همته الإحسان فأخلق بهدايته من الرحمن؛ لأن الرحيم إذا علم بصحة النية وسلامة القلب والطوية كان حقيقاً عليه أن يهديه للصواب، ويوفقه لأفضل الأسباب.