باب الدلالة على حدث الأجسام
  ثم انظر إلى الحركة، والسكون فلن تجدهما أبداً إلا في وقت، ولو قل الوقت، ثم انظر إلى حدث الوقت ثم انظر إلى انقطاعه، ثم افرق بين يومك، وأمسك، وافرق بين ما تأمل من البقاء وبين الماضي السالف من عمرك الفائت الذي قد مضى، فإنك تجد كل يوم من أيامك السالفة الماضية الذاهبة من عمرك الفانية، قد تضمنها الفناء وكذلك تضمن غيرها.
  ثم انظر الفناء أوقع عليها كلها أم لا؟ فإنك إن نظرت وجدت كل ساعة من الساعات والأزمنة الماضية الخالية، لم ينقطع آخرها إلا بعد انقطاع أولها، ولم يحدث آخرها إلا بعد حدوث أولها، وكل أول من الزمان حدث، وصح حدثه فلم يحدث آخره حتى فني أوله، وما لم ينفك من الحدث والفناء فقد تناهى منه كل ما مضى، وبلغ غايته وانقضي، فلم يوجد الزمان إلا على هاذين الحالين المتناهيين، الحدوث والفناء، وما صح حدثه ومبتدأه وصح فناؤه ومنتهاه، ولم توجد الأجسام جميعاً إلا بوجوده فسبيلها في الحدث كسبيله.
  ودليل آخر: لما نظرنا إلى الزمان والهواء، فأمكن في المعقول أن ينفردا من الأجسام، علمنا، إذ ذلك أنهما كانا قبل الأشياء ثم نظرنا إلى الأشياء فإذا هي لا تنفك منهما ولا يجوز في المعقول أن يكون قبلهما، فعلمنا أن الأشياء محتاجة إليهما مبنية - في الشاهد - عليهما.
  فلما علمنا أن الأشياء لم تكن قبلهما، ولم توجد إلا بوجودهما رجعنا إلى الطلب لحدوثهما والاستدلال على صنع الله فيهما فنظرنا إلى أجلّهما وأوضحهما، وهو الهواء هل ينفك - طرفة عين أو أقل منها - من الزمان؟