شرح قطر الندى وبل الصدى (ابن هشام)،

ابن هشام الأنصاري (المتوفى: 761 هـ)

ترجمة العلامة الراحل محمد محيي الدين عبد الحميد

صفحة 22 - الجزء 1

  وهو يمدك برؤية تحليلية عن واقع الأمة، وما تعانيه من عجز عن اللحاق بركب التقدم، وتبوّء المكانة التي تلائم إمكاناتها والأمانة التي حملت إياها في مقال مجمل وإن كان جامعا؛ فيقول:

  «مضى على الشرق الإسلامي حين من الدهر كان سيف الاستعمار مصلتا فوق رقاب أهله: يرهبهم ويخيفهم، ويستأثر دونهم بخيرات بلادهم، ويلفتهم عن السعي المثمر، ويحول بينهم وبين العمل النافع، ويحملهم على ما يرضاه لهم من الحياة الرتيبة التي لا جدّ فيها ولا دأب. وكانت شياطين الاستعمار وأذنابه الذين يجلبهم من نفايات الأمم وأراذلها يجوسون خلال ديارهم ويخالطونهم ويتوددون إليهم، وقد يتملقونهم، وليس في نفوسهم من الود والملق شيء، ولكن ليخدعوهم عن أنفسهم وليستجلبوا إقبالهم عليهم واطمئنانهم لهم، فلا يزالون يختلونهم ويغررون بهم حتى إذا رأوا أن قد جازت حيلهم أخذوا يزينون لهم التواكل والخضوع، ثم أخذوا يزهدونهم في تقاليدهم ومقدساتهم، ثم أخذوا يشككونهم في معتقداتهم ويزعمون لهم أن هذه التقاليد والمقدسات والمعتقدات السبب الأول في تخلفهم وضعفهم، وتحكم الأجنبي فيهم، ثم أخذوا يلوحون لهم بحضارة الغرب وتقدمه وقوته، فإذا استشرفت أنفسهم لشيء من هذه الحضارة جلبوا لهم منها البهرج الزائف وما يكون سببا قريبا للانحلال والتخاذل، والاستعمار من ورائهم يغريهم ويشجعهم ويحميهم إن جدّ ما يستوجب الحماية، وكان من أهم ما يعني الاستعمار وشياطين الاستعمار وأذناب الاستعمار أن يقطعوا الصلة التي تربط الشرق بماضيه المشرق المنير، وأن يحولوا بينه وبين التطلع إلى حضارته التي أضاءت العالم كله يوم كانت قيادة العالم في أيدي أهل الشرق، ويوم كانت قيادة العالم في أيدي العرب من أهل الشرق خاصة، ذلك لأنهم يعلمون أن الشرق الإسلامي - والعرب منه خاصة - إن تلفتوا إلى هذا الماضي المجيد رأوا إشراقه وبهاءه فتاقت أنفسهم إلى العودة إليه، وقد يعملون على إعادته، وحينئذ لا يكون لبقاء الاستعمار بينهم مجال، ويعلمون - مع ذلك أنه ما من أمة انقطعت صلة ما بين حاضرها وماضيها - وبخاصة إذا كان هذا الماضي مشرقا مجيدا - إلا صار أمرها إلى فناء.

  وطال على الشرق هذا الليل البهيم حتى نال الاستعمار بعض أمانيه، بالإرهاب والجبروت حينا، وبالخديعة والمكر والدسائس حينا آخر، فإذا وحدة الشرق تتفتت، وإذا