شرح قطر الندى وبل الصدى (ابن هشام)،

ابن هشام الأنصاري (المتوفى: 761 هـ)

ترجمة العلامة الراحل محمد محيي الدين عبد الحميد

صفحة 23 - الجزء 1

  كل قطعة من هذا الفتات دولة، وإذا بأس هذه الدول بينهم شديد وإذا الجفاء والبغيضة يحلان محل الإلاف والوحدة، وإذا مجدهم التليد وحضارتهم الرفيعة وتاريخ هذه الحضارة وعلومها ورجالها في زوايا النسيان، وقد أخذهم بريق من حضارة الغرب يفتن أبصارهم، بريق ليس هو بالنور الساطع الذي يبدد غياهب الظلام، ولا هو بالنور الذي يعقبه ضوء ينتشر في الأفق فإذا الناس يسيرون فيه آمنين، ولكنه يشبه بريق السراب الخادع الذي تراه فتحسبه شيئا فإذا جئته لم تجده شيئا، وخدعهم هذا البريق عن حضارتهم وتاريخها وعلومها ولم ينالوا به شيئا ذا بال من حضارة الغرب وعلومها ذات الأثر الفعال في بناء الأمم وتجديدها وبعث الحياة في أوصالها، وإذا المتعلمون والمثقفون من أبناء هذه البلاد التي كانت مبعث العلم والثقافة أقلية قليلة بقدر ما يحتاج إليه المستعمر في وظائف الدولة التي يزهد رجاله في تقلدها، وإذا علم هذه الأقلية وثقافتها ضئيلان بقدر ما يجعلها آلات يديرها الاستعمار ويحركها في أهوائه، تسير إذا أراد أن تسير، وتقف كلما أراد لها الوقوف.

  ولأمر أراده اللّه، ولم تكن للاستعمار فيه يد، بقي معدن هذه البلاد وأهليها سليما نقيا صالحا للعمل إذا نفض عنه الغبار وأزيل ما علق به من الصدإ وجلي جلاء يعيد له أصالته ونفاسته، وبقي - مع ذلك - من أهل البلاد جماعة لم تلن قناتهم، ولم تتحطم أعوادهم ولم تفتر عزائمهم ولم يخدعهم ذلك البريق، ولكنهم تطامنوا للعاصفة الهوجاء وقبعوا في أماكنهم - لا ضعفا ولا استكانة، ولا رهبة ولا خوفا، ولا رضا بما عليه الناس من حولهم - ليعدوا أنفسهم وليهيئوا الجو الصالح، وليبصروا قومهم في حذر وترقب حتى إذا اكتمل الوعي وجاء وعد الانتفاضة هبوا فإذا الناس يهبون معهم من كل جانب، وإذا معدن الشرق الأصيل الكريم يظهر على حقيقته، وإذا أبناء الشرق جميعا يتقدمون للعمل وينتظرون التوجيه، وإذا الاستعمار يتخاذل ويستخذي ويتضاءل ثم إذا هو يضع عصاه على كتفه ويحاول النجاء.

  ويتلفت المصلحون وينظرون فيما يعيدهم أمة قوية حية ناهضة عزيزة مرهوبة الجانب فيجدون أن لا مناص لهم من العودة إلى الماضي المجيد يصلون به حاضرهم ويبنون عليه مستقبلهم، الماضي المجيد بوحدته التي تصمد وتتعاون وتتساند وتتكافل ويكون معها الجميع كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر