شرح قطر الندى وبل الصدى (ابن هشام)،

ابن هشام الأنصاري (المتوفى: 761 هـ)

ترجمة العلامة الراحل محمد محيي الدين عبد الحميد

صفحة 24 - الجزء 1

  والحمى، وبحضارته التي بهرت أنظار العالم ولم تبخل على أحد بشيء منها، ولم تحاول التغرير بأحد ولا استغلاله ولا الاستعلاء عليه، ولم تدّع لنفسها ما ليس لها، ولا زيفت التاريخ وغضت من حضارات سبقتها واقتبست هي منها، لأنها غنية بمفاخرها وأمجادها، فليست بها حاجة أن تسلب أمجاد غيرها ولا مفاخرهم، ولأنها حضارة بنيت على مكارم الأخلاق واحترام المثل العليا، وليس من مكارم الأخلاق ولا من احترام المثل العليا أن تنسب لنفسها ما هو من صنيع غيرها».

  ثم يضيف:

  «وقد أظهر ناشر هذا الكتاب من البراعة والحذق في اختياره، في هذه الفترة التي نجتازها اليوم، ما هو خليق بالتقدير والثناء، فنحن في حاجة ماسة إلى نظرة فاحصة في تشريعاتنا في الدماء والأموال والأحوال الشخصية، ونحن في حاجة ماسة إلى أن يطلع أهل الرأي منا على آراء الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة في ذلك كله، ونحن في حاجة ماسة إلى أن نظهرهم على الآفاق الواسعة والآراء الناضجة المؤسسة على سعة الاطلاع ونفاذ البصيرة وبراعة العرض وحسن الترجيح، وقد تكفل هذا الكتاب - على صغر حجمه - بالكثير من ذلك»⁣(⁣١).

  والحديث عن تحقيق كتب التراث قد يمتد ما شاء اللّه له أن يمتد دون أن نوفيه حقه من التمام، وإلى ما لا يتسع له المقال، وإنما تبقى نقطة نكتفي بالإشارة إليها، فإن بعضا من المنتسبين إلى العلم أو العاملين في تحقيق التراث قد يعمد إلى الانتقاص من قدر الرجل وقيمة جهده وعمله، أنه - من مذهبهم - لا يوافق عمل المستشرقين، ولا يجري على سنن المنهجية التي ادعوها لأنفسهم، تقليدا للمستشرقين، وحسبك أن نحيلك إلى نتف من أقوال السلف الصالح، ففيها الغناء عن كثير مما ينبغي قوله في ذلك المقال، يقول التاج السبكي في طبقاته: «قد عرّفناك أن الجارح لا يقبل منه الجرح - وإن فسره - في حق من غلبت طاعته على معاصيه، ومادحوه على ذامّيه، ومزكوه على جارحيه، إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها من تعصب مذهبي، أو منافسة دنيويّة، كما يكون بين النظراء، وغير ذلك، وحينئذ فلا يلتفت إلى كلام الثوري وغيره في أبي حنيفة، وابن أبي


(١) من مقدمة كتاب «لطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية.